من المفهوم أن يتوقف البعض أمام المعني المقصود من المبادئ فوق الدستورية التي أعدتها لجنة من الخبراء والقانونيين وطرحها علينا الدكتور علي السلمي نائب رئيس مجلس الوزراء, لنناقشها ونصل فيها الي اتفاق أو توافق, يجعل هذه المبادئ التي نسميها أحيانا مبادئ أساسية, وأحيانا مبادئ فوق دستورية, أساسا نلتزم به, ونبدأ منه في وضع دستورنا الجديد. أقول من المفهوم أن يتوقف البعض أمام هذه المبادئ فوق الدستورية, فلا يتبينون المعني المقصود فيها, وربما فهموها بمعني يتناقض مع معني الدستور الذي لا يستحق اسمه هذا إلا اذا نبع من تحت, من الأرض, ومن حياة البشر الذين يعيشون فيها, ولم يكن نازلا عليهم من فوق, ولا هابطا عليهم من السماء! لماذا نتوقف أمام المعني المقصود من هذه العبارة؟ ولماذا يغيب معناها الحقيقي عن البعض ويسئ فهمها؟ والجواب حاضر, وهو أن علاقتنا بالدستور لم تكن دائما جيدة, بل لم تكن في معظم الأحيان موجودة, فالدستور هو القانون الأساسي الذي يحدد علاقة المواطنين بعضهم ببعض في الأمم الحرة, ما لهم من حقوق, وما عليهم من واجبات, كما يحدد علاقتهم بالسلطة التي يختارونها بإرادتهم الحرة لترعي حقوقهم, وتصون حرياتهم أفرادا وجماعة, ونحن نعرف بالطبع أننا كنا في تاريخنا الذي امتد آلافا من السنين رفيق أرض نزرعها للحكام الذين كانوا طوال القرون الخمسة والعشرين الماضية غزاة أجانب وجنودا مرتزقة استعبدونا وهم عبيد! لقاء إبقائهم علي حياتنا, أما الحرية, وأما الديمقراطية فلم يكن لنا فيها أي حق, حتي وجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام المستعمرين الأوروبيين الذين عرفنا منهم ونحن نكافحهم أسباب النهضة, وشروط الحياة, وحقوق الإنسان, ومعني الديمقراطية وحكم الدستور الذي لم ننعم به إلا سنوات قليلة متفرقة خلال العقود الثلاثة التي تلت ثورتنا الوطنية الكبري عام 1919, وانتهت بانقلاب يوليو الذي أوقف العمل بالدستور, وحل الأحزاب, وحرم النشاط السياسي, وصادر حرية التفكير والتعبير, وراقب الصحف, واستعان خلال العقود الستة الماضية بأجيال من ترزية القانون الذين لم يتعلموا منه إلا ما يمكنهم من الشهادة ضده والعمل في خدمة الطغيان وستر عوراته والرقص في حفلاته, وإلباسه مرقعات ملفقة باعدت بيننا وبين المعني الحقيقي للدستور الذي فقدنا اهتمامنا به ونسيناه, فمن الطبيعي أن نتوقف أمام عبارة المبادئ فوق الدستورية وأمام غيرها من العبارات والأفكار والنظريات السياسية التي نجتهد الآن في فهمها ومناقشتها, بعد أن اشتعلت ثورة يناير المجيدة ونجحت في إسقاط الطاغية وأيقظتنا من جديد علي حقوقنا المهدرة وحاجتنا لمراجعة علاقتنا بالسلطة, والاستفادة مما قاسيناه في ماضينا القريب والبعيد, والعمل علي أن تكون ثورتنا الأخيرة وما قدم فيها من قرابين وأريق من دماء, نهاية حاسمة لعهود الطغيان, وفجرا صادقا لعهود الحرية. من هنا صار علينا أن نضع لأنفسنا دستورا لا يتناقض مع أي حق من حقوق الأمة, ولا يتآمر عليه المتآمرون, ولا يتحكم في صياغته تيار من تلك التيارات التي تحاول اختطاف الثورة, ولا تؤمن بالديمقراطية, وتسعي لتلفيق دستور علي مقاسها يمكنها من الانفراد بنا, والتسلط علينا, وارغامنا علي أن نسلم لها مصيرنا, وأن نقول ما تقوله ونفعل ما تفعله, ولكي نفوت علي هؤلاء المتآمرين الفرصة انطلقت الدعوة للاتفاق علي مبادئ أساسية تمثل ما هو مشترك متفق عليه بيننا, وما لا يستطيع أن يعترض عليه تيار أو جماعة, لأنه حق طبيعي لكل البشر وقيمة لا تستقيم بدونها حياة انسانية, ولهذا تحرص عليها كل الأمم, وينص عليها في كل الدساتير, ومن هذه المبادئ المبدأ القائل بأن الأمة هي مصدر كل السلطات, والمبدأ القائل بأن المواطنة أي الانتماء للوطن الذي نعيش فيه ونستثمر خيراته, ونحفظ تراثه, ونذود عن حياضه هي الأساس الذي نضعه لوجودنا المشترك, ونقف عليه متساوين لا يتميز فينا مواطن عن مواطن والمبدأ القائل بأن الأمة مصدر كل السلطات, والمبدأ القائل بالفصل بين السياسة والدين.. هذه المبادئ التي أخذ بها العالم كله ينبغي أن نتفق نحن أيضا حولها لأنها ليست مجرد آراء أو وجهات نظر, وانما هي أصول وأركان وثوابت لايمكن أن يستغني عنها في أي دستور, ولهذا اعتبرت مبادئ أساسية, أو مبادئ حاكمة, أو مبادئ فوق دستورية. غير أن هناك من فهموا كلمة فوق بمعناها الحرفي الموجود في معاجم اللغة, فأصبحت المبادئ الأساسية التي نريد أن نتفق حولها فوق الدستور أو أعلي منه, وهذا خطأ بالغ يقع فيه البعض دون قصد لقلة خبرته بالنظريات السياسية والمصطلحات العلمية الحديثة, ويقع فيه آخرون متعمدين, لأنهم يريدون أن ينفردوا كما قلت بوضع الدستور, متحصنين بالأغلبية التي يحلمون بها, ويسعون الآن بمختلف الطرق المشروعة وغير المشروعة للحصول عليها في الانتخابات المقبلة, فإن وقعت الواقعة, لا قدر الله, وحصلوا علي الأغلبية أصبح من حقهم أن يختاروا أعضاء اللجنة التأسيسية التي ستتولي وضع الدستور بالشروط التي تجعله أداة لهم تمكنهم من البقاء المؤبد في السلطة, والاستبداد بالحكم تحت ستار الديمقراطية التي يمكن أن تتحول الي طغيان غوغائي يستحيل فيه الدفاع عن حق مهدر, أو الانصات الي صوت عاقل أو تغليب المصلحة العامة علي الأطماع الفردية, خاصة في الظروف الراهنة التي يمكن فيها خداع الناخبين ورشوتهم واستغلال أمية الأميين, وفقر الفقراء وعواطفهم الدينية التي يتلاعب بها الآن مشعوذون كثيرون يقدمون أنفسهم بوصفهم حماة الشريعة المتحدثين باسمها, والمكلفين باقامة حدودها, في مناخ مضطرب حافل بالأخطار لا يساعد علي التمييز بين من يعرفون للدين حقه ومكانه في حياة الفرد والجماعة ومن يتاجرون به ويتخذونه مطية للسلطة وسلاحا للإرهاب. هؤلاء يتعمدون تضليل الناس وافهامهم أن المبادئ فوق الدستورية أفكار تتعالي علي الدستور, وتلتفت علي ارادة الأمة, وهذه حيلة رخيصة طالما لجأ إليها الذين يجعلون السياسة سوقا سوداء لا يتورعون فيها عن الكذب والتزوير. ونحن نعرف كيف استطاع المرشح المنافس لأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد أن يقنع الناخبين البسطاء في إحدي المعارك الانتخابية, بأن الديمقراطية التي يدعو لها الأستاذ مذهب يبيح للرجال أن يتبادلوا زوجاتهم! وكيف استطاع آخرون في هذه الأيام أن يشيعوا لدي الكثيرين أن العلمانية التي تمنع استغلال الدين في السياسة معناها إعلان الحرب علي الدين! وها نحن نراهم يواصلون حربهم القذرة علي الديمقراطية والعقلانية والدستور, فيزعمون أن المبادئ فوق الدستورية معناها المبادئ التي تعلو الدستور لتكون قيدا عليه! والحقيقة التي نستطيع أن نراها بوضوح, هي أن هؤلاء دون غيرهم هم الذين يسعون للقفز علي إرادة الأمة وتقييد الدستور وفرضه علينا من فوق وجعله مرجعا للطغيان يبرره ويلبسة قداسة زائفة, ويحوله الي قضاء مبرم لا فكاك منه. انهم يريدون أن يفرضوا علينا دستورا وهابيا يثبتون فيه أن الشريعة كما يفهمونها هم, أو كما أريد لهم أن يفهموها, هي وحدها المرجع بعيدا عن حكم العقل ومطالب العصر, واختلاف الظروف.. وبهذا يصادرون حق الأمة الذي ينبغي ألا نسمح لأي قوة بأن تمسه أو تجادل فيه, وهو أنها مصدر لكل السلطات, فإن خرجنا علي هذا المبدأ الذي يسبق كل مبدأ, فنحن في هذه الحالة نزيف الدستور ونزوره, وندخل عليه ما يفسده وينقضه وينفيه ويعطل وجود الأمة ويحرمها من كل حقوقها, لأن الأمة التي ينتزع منها حقها في التشريع لنفسها ينتزع منها حقها في كل شئ, انها تفقد بهذا حريتها وارادتها, أي تفقد عقلها وانسانيتها وتتحول الي قطيع مسير مقهور تأكله الذئاب وتحرسه الكلاب! }}} لكن السؤال الذي بقي مطروحا هو: لماذا نسمي المبادئ الأساسية في الدستور مبادئ فوق دستورية؟ الجواب يوم الأربعاء المقبل. المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي