لاشك أن من أهم ثوابت الدولة القانونية في المجتمع المعاصر وجود استقلال حقيقي وراسخ للسلطة القضائية وضمان حيدتها وتجردها والنأي بها عن معترك السلطات والجهات الأخري في الدولة بحسبان أن القضاء هو وحده ملاذ المظلومين ومرجع الخائفين وسياج الحريات والضامن الوحيد للحريات. , وأن قوته واستقلاله تغدو قوة للمظلومين ودرعا وسيفا للمحرومين ويضحي ضعفه وانكساره عزة وشوكة للمستبدين. ويجب ألا يغيب عن الأذهان أن دور الدولة في تعزيز وتدعيم استقلال السلطة القضائية يجب أن يشمل عدة قواعد علي جانب عظيم من الأهمية منها علي سبيل المثال:(1) الاهتمام بالتشريعات القضائية التي تؤكد هذا الاستقلال, وأهمها قانون السلطة القضائية والنص فيه صراحة علي المباديء المستقر عليها دوليا ومحليا المؤيدة لاستقلال السلطة القضائية, وعدم التدخل الحكومي الذي لا مبرر له في أمور العدالة, وتفرد جهة القضاء وحدها وعلي سبيل الاستئثار بجميع المسائل ذات الطابع القضائي وعدم تداخل الاختصاص بين جهات القضاء العادي والاستثنائي, فلا يعقل أن تصمم الدولة علي إحالة أنواع معينة من القضايا الي جهة قضاء استثنائي بحجة السرعة وشدة الأحكام, ذلك أن السرعة غير المبررة في الإجراءات لا توفر عدالة ناجزة وشدة الأحكام ليست بمفردها ردعا للكافة, وإنما العدالة الحقيقية هي التي تقوم علي التوازن الأكيد بين مقتضيات الأمن والاستقرار في المجتمع وبين تحقيق مصالح جميع الأخصام في الدعوي, كذلك يجب علي الدولة أن تراعي النص في صلب قوانين السلطة القضائية علي الحدود الفاصلة بين عمل القضاء وبين سائر وسائل الإعلام فلا يسوغ أن تطالعنا كل يوم سائر وسائل الإعلام بحديث مفصل في أمور الدعوي المنظورة أمام القضاء علي الرغم من تجريم قانون العقوبات لهذه الأفعال, كما لايصح أن يجلس القاضي نهارا للنظر بين الخصوم ثم يجلس ليلا أمام الكاميرات يتحدث عما نظره من دعاوي, كما يكون من المفيد وضع الفوارق الواضحة بين عمل القضاة والدفاع حتي لاتتكرر مشكلة الصدام بين الجهتين, كما يكون من المستحسن النزول بسن التقاعد للقضاة الي خمسة وستين عاما علي أن يستفاد ممن اكتمل عطاؤهم في التدريس والتدريب في مركز الدراسات القضائية لإعداد الأجيال التالية من رجال القضاء, واقتراحات تعديل التشريعات القائمة بما لهم من خبرة عظيمة في هذا الشأن(2) ضرورة أن تراعي الدولة اعتبارات تعويض ضحايا الجريمة والمجني عليهم فيها, ولنا في ذلك أمثلة عديدة من المواثيق والصكوك الدولية التي تحرص بالغا علي مساعدة ضحايا الجريمة خاصة من وقع ضحية جريمة من جرائم استعمال السلطة وجرائم الاعتداء علي النفس والعرض والشرف.(3) ضرورة حرص الدولة علي إنشاء الشرطة القضائية التي يجب أن يعهد لها بأمور عديدة تعتبر ذات شأن عظيم في القضاء. منها القيام بإجراءات الإعلانات القضائية وتنفيذ الأحكام وحراسة القضاة إثناء وبسبب تأديتهم لوظيفتهم وكذا دور وقصور العدالة, وهذه كلها أمور ذات تأثير بالغ في استقلال القضاء.(4) الاهتمام بشخص رجل القضاء باعتباره ممثل الدولة ونائبها في تحقيق العدل بين الأفراد, فلا بد أن يتوافر له مايحصنه معنويا وماديا من أي إغراءات قد تلاحقه, كما أن هذا الاهتمام لابد أن يبدأ من بداية اختياره في أول السلم القضائي عن طريق حسن الاختيار من بين المتقدمين من ذوي النزاهة والكفاءة والمنشأ الاجتماعي الأصيل ثم الرعاية اللاحقة من تدريب جيد وتأهيل وتكوين مهني سليم عن طريق عقد الدورات التدريبية المتخصصة المستمرة سواء أكانت داخل مصر أم خارجها والتشجيع علي البحث العلمي.(5) وأخيرا وجوب الاهتمام الرسمي بأعوان القضاة والذين يتدخلون باعمالهم في نظام العدالة, ولهذا فأن إصلاح أمورهم يعني إصلاح جانب كبير مهم للعدالة بصفة عامة. صفوة القول إذن أن واجبا أصيلا علي الدولة أن تعتنق وتؤمن أن عليها التزاما راسخا بتدعيم وتعزيز استقلال السلطة القضائية وأنه ضمانة جوهرية للدولة ذاتها وللحكام والمحكومين علي حد سواء, وأنه لا استمرار لدولة مابدون هذا الاستقلال, وأن عزة الدولة وسلطانها في الخضوع لقضاء وطني حر مستقل لايخشي إلا الله سبحانه وتعالي.