حاول أن يفتح عينيه. كانت جفونه مثقلة كأن شيئا يضغط عليها. أحس بأن عقله مدفون في مكان بعيد. صارع لاستراجعه, ليبدد الضباب المحيط به, ليصعد بذهنه من شيء كالسائل اللزج يشل تفكيره. أخيرا أفاق ليجد نفسه في سرير. راقدا علي ظهره. كان الضباب المحيط بعقله قد تبدد, فأدرك أنه ليس في بيته, ليس في غرفة نومه, وإنما في غرفة صغيرة غريبة عليه. أعلي رأسه كانت تتدلي زجاجة من البلاستيك تتساقط منها نقاط سائل شفاف في أنبوب طويل ينتهي عند وصلة مثبتة في ذراعه, فأدرك أن هذا السائل يصب في جسمه عن طريق إبرة مرشوقة في الوريد. خارج باب الغرفة الزجاجي لمح أجساما غامضة بدت له مثل الأشباح لا تكف عن الظهور ثم الإختفاء لتظهر من جديد. عندما دقق النظر فيها تبين له بعد قليل أنهم أشخاص يرتدون أثوابا طويلة بيضاء, وأغطية للرأس, أنهن ممرضات يرحن ويجئن في صالة, وأنه في منتصف الصالة يوجد حاجز يشبه حاجز الاستقبال ركن إليه رجل يرتدي حلة خضراء, ليكتب في شيء موضوع أمامه. إذن هو موجود في غرفة مستشفي. لم يسبب له هذا الإكتشاف صدمة, أو شعورا بالدهشة. سجل عقله هذه الحقيقة بهدوء كأنها جزء من السريان الطبيعي للأمور. انشغل تفكيره بتساؤلات لم يجد لها إجابة. ما الذي جاء به إلي هنا؟ كيف تم نقله من البيت إلي المستشفي, ولماذا؟ شحذ قدراته الذهنية في محاولة للتذكر. أخذ يدور في فراغ أسود مرات متتالية حتي أحس بالإرهاق, فاستسلم وعاد إلي التتبع السلبي لما يدور من حوله, لفترات من النوم المتقطع, أو من السرحان تنقله من شيء إلي شيء, ومن صورة إلي صورة دون رابط. بين الحين والحين كانت تدخل إليه إحدي الممرضات لتناوله أقراصا من الدواء ومعها كوب من الماء فيبتلعها في صمت, أو لحقن محتويات أنبوب في الوصلة المثبتة في ذراعه, أو لإفراغ حقنة مليئة بسائل أصفر في زجاجة البلاستيك المعلقة أعلي رأسه, أو لتضع صينية من الأكل علي منضدة مزودة بعجلات طالبة منه أن يستقيم في رقدته حتي يتناول طعامه, فيأخذ منه ملعقتين من الأرز, ومن الخضراوات المسلوقة, ثم يعود إلي الرقاد, إلي حالة من نصف اليقظة تتوالي فيها الأحاسيس والصور, أو يعود فيها إلي كدح ذهنه بأسئلة لا يجد لها إجابة. ما يتذكره هو أنه كان سائرا في الطريق ساعة الغروب, علي رصيف مبطن بالأسمنت, وإلي جواره جدار عال. من حوله امتدت مساحات واسعة من الرمل أخذت تتزايد فيها فيلات الأثرياء المحاطة بالحدائق والجدران العالية تنبح خلفها الكلاب منذرة من يمر أمامها أنها له بالمرصاد. الشوارع خالية ماعدا عدد قليل من السيارات تنطلق فيها بمحركاتها الهامسة, وزجاج نوافذها الداكن يوحي بأن ثمة شيئا خفيا يدبر من ورائها. اقترب من الجزء الأفقر للحي, حيث يوجد السوق تتجاور فيه محلات البقالة, ومحلات بيع الفواكه والخضراوات, أو الطيور, ثم المخبز البلدي والمقهي يتزاحم فيه عمال البناء في هذه الساعة من النهار التي ينتهي فيها يوم العمل فيرتاحون علي مقاعدها ليحتسوا أكواب الشاي, أو يدخنوا كرسيا من الدخان وهم يشاهدون المسلسلات التليفزيونية والأفلام, ثم عند طرف السوق المول الشعبي ومن خلفه الجامع. تجاوز السوق ثم انحني في الممر الذي يقود إلي بيته. وضع المفتاح في الباب. فتحه ودخل إلي الصالة. خلع حذاءه المطاطي الأسود, والجورب. ارتدي خفه وتوجه إلي غرفة المعيشة فقامت من جلستها أمام الكمبيوتر واحتضنته. جلس علي الكنبة وتحسس النبض واضعا يديه علي جانبي رأسه. سألته عنه فقال: سريع لكنه منتظم. بعد ذلك مهما بذل من جهد لا يتذكر شيئا. أحس مرة آخري بالإرهاق, وبعد قليل سقط في النوم. استيقظ فجأة. كان كل شيء من حوله ساكن. الصالة هادئة توقفت فيها الحركة. النور في غرفته مطفأ, وفي الظلام تومض العين الخضراء للجهاز الموصول بقلبه والمعلق علي الجدار أعلي رأسه. ذهنه صافي تتوالي فيه الصور غامضة في البداية, لكنها مع الوقت تصبح واضحة. يري نفسه جالسا علي شرفة. ضوء الفجر الرمادي ينتشر في السماء. علي المنضدة الموضوعة أمامه كراسة النوتة الموسيقية سهر عليها طوال الليل, وإلي جواره علي الأريكة الناي الذي ابتاعه في اسطنبول. بين الحين والحين يرفعه إلي فمه, ويعزف عليه جزءا من اللحن الذي سهر عليه. لم يفارقه هذا اللحن طوال الأشهر الماضية. ظل يتردد في ذهنه مضطربا عاصفا في بعض أجزائه, هادئا نقيا في أجزاء آخري. يطارده علي الأخص أثناء الليل, وهو سائر في الطريق, أو جالسا في الحانة الصغيرة خلف ساحة الخازندار, أو ساهرا مع أصدقائه في المقهي. في البيت كاد الحديث بينهما ينقطع فيلمح نظرة عينيها القلقة تظهر في لحظة خاطفة فيتألم. لكن ماذا يقول؟ يعرف أنها تدرك, أن ألمها من ألمه أيضا, فقد رأته عندما يلم به الفشل. سجل نوتات اللحن في كراسة الموسيقي عشرات المرات. في كل مرة شيء فيه لايرضيه, شيء غامض تمني لو يهتدي إليه, وقلق بل حزن رابض في نفسه. صوت يقول له لا... ليس هذا ما تصبو إليه. لماذا عندمل يسجل النغم علي الورق شيء فيه يفلت منه؟ تتردد إيقاعاته وهو سائر فيشعر أنه وقع علي ما كان يبحث عنه. يبتهج, ويكاد يرقص فرحا, ثم عندما يجربه علي الناي لا يرضي عنه, وتتردد أوتار القيثارة بغلظة من خلفه. اللحن الذي اختاره لا يحتاج سوي إلي هاتين الآلتين, إلي نبض القيثارة عميق مقتحم أحيانا, هامس متوار أغلب الأوقات, تاركا للناي كل المسافات التي يريد أن يجتازها, كل التطلع إلي البراري البعيدة التي عاش راعيا فيها, كل العذاب الذي عرفه في قمائن الطوب يحمل إليها التفل الداكن, كل الشجن لأيام من الحب بريئة. يدير الإسطوانة المدمجة سجل فيها اللحن ليستمع إليه وهو جالس يخطط في كراسة الموسيقي. يعيد ترتيب بعض الأجزاء. يشطب وترا شاردا هنا أو هناك, أو يضيف صرخة للناي من عاشق خائن, أو يرفع نبض القيثارة في لحظة غضب مكتوم. يظل يكتب ويشطب ويراجع باحثا عن النغم الهارب, عن حوار الوجدان بين الآلتين, عن سماء صافية يصعد إليها, عن جحيم يحترق في نيرانه, عن لحن مستحيل يفلت منه. سمع نقرا علي باب الحجرة. أضيء النور ودخل رجل يرتدي بزة كحلية اللون وقميصا, أبيض, تبعته إحدي الممرضات تحمل بين يديها السماعة. سأله الرجل: هه... خليك مرتاح. كيف أحوالك الآن؟ قال: لا أعرف لم أقم من السرير.. قال: لا بأس... بعد يومين أو ثلاثة سنطلب منك أن تمشي قليلا. لا نريد أن ننهي العناية المركزة الآن. في الوقت المناسب سننقلك إلي غرفة للعناية العادية. لو سمحت إجلس. أريد أن أفحص صدرك. تناول السماعة التي كانت تحملها الممرضة. أزاح قميص المستشفي الذي كان يرتديه وفحص صدره من الأمام ثم من الخلف. قال حسنا... هل تريد شيئا؟ نعم... أريد أن أعرف ما الذي جري لي.؟ قال: مسألة بسيطة. حدث لك ارتفاع مفاجيء في ضغط الدم وأنت سائر, وإنفجار في شريان صغير لم يسبب أية أضرار للمخ. لكن عليك أن تحتاط في المستقبل. أن تتناول العلاج بانتظام, وألا تسير في الشارع دون مرافق. ما حدث لك هو إنذار, زيارة خاطفة للموت, وهذا من حسن حظك حتي تلتزم بما يجعل صحتك تتحسن. لكني لا أتذكر شيئا عن نقلي إلي هنا. من أين نقلت؟ من الشارع بعد أن فقدت الوعي. لماذا لا أتذكر شيئا عن هذا؟ لأنك فقدت الوعي, وعندما أفقت فقدت الذاكرة مؤقتا. مؤقتا؟ نعم مؤقتا. ستستعيد الذاكرة تماما وستشفي من أية أعراض آخري علي شرط الإلتزام بعلاج القلب أجرينا فيه بعض التعديلات. خرج الطبيب من الغرفة, ومن خلفه الممرضة. سرح فيما سمعه منه محملقا في نقاط السائل تسقط بطيئة في الأنبوب كالقدر, كالزمن. تري هل أخفي عنه شيئا؟ تري كم يوم سيضطر للبقاء هنا؟ يريد أن يتحرك, أن يعود إلي البيت. نسي أن يسأله متي يمكن أن يغادر المستشفي. قالوا له أن الزيارات تتم من الساعة الواحدة إلي الثانية بعد الظهر. إذن ستأتي غدا. سيطلب منها أن تحضر له أوراقه. تري هل سيسمح له باحضار جهاز تسجيل وإسطوانات مدمجة؟ امتدت يده إلي مفتاح الجرس القريب من رأسه. زيارة خاطفة إلي الموت. شيء ما في العلاقة بين القيثارة والناي. تململ في رقدته كأنه يهم بالقيام. هذا اللحن المستحيل لابد من أن ينجزه... لابد. عاد إلي البيت بعد أسبوعين. كان يشعر بالضعف الشديد علي الأخص في ساقيه لكنه واظب علي المشي في الفجر أو ساعة الغروب, وكانت هي مثل الظل ترافقه كلما خرج من باب البيت. ظل يعجز عن العمل والتفكير لفترة ثم مع الوقت أصبح يعمل. يواظب علي المشي ساعة من التريض قرب الفجر فهو ينام بالنهار ويعمل طوال الليل. في أول يوم للعيد استيقظت في الصباح. لم تجده راقدا في السرير فقامت بسرعة وتوجهت إلي حجرة المعيشة. وجدته جالسا واضعا ذراعيه علي سطح المكتب, مسندا رأسه عليهما. علي المكتب إلي جوار رأسه كان قد وضع اسطوانة مدمجة كتب عليها بالفلوماستر الأخضر عزف علي وتر المستحيل. لم ترد أن توقظه فأخذت الإسطوانة, وتوجهت إلي الصالة مغلقة الباب وراءها حتي لا يصل الصوت إليه, ولمدة ساعة ونصف الساعة ظلت تستمع إلي القيثارة والناي, إلي موسيقي لم تسمع مثلها من قبل, موسيقي قادرة علي أن تصعد بها إلي السماء في لحظة, وأن تهبط بها إلي الجحيم في لحظة آخري, موسيقي تقول بلغة الناي كم كان يحبها. أما هو فظل واضعا رأسه علي ذراعيه دون أن يغير من وضعه بعد أن توقف عن التنفس. ................................................ عن الكاتب: له عدة مؤلفات سياسية, وتسع روايات نشر منها اثنتان باللغة الإنجليزية في لندن هماالشبكة والعين ذات الجفن المعدني. أحدث مؤلفاته سيرة ذاتية من ثلاثة أجزاء نشرت تحت اسم النوافذ المفتوحة وأعيد طبعها ثلاث مرات. ورواية صدرت في دار المحروسة2008 اسمها نبض الأشياء الضائعة, ويوميات روائي رحال عن نفس الدار. وكذلك روايتي ابنة القومندان2008 والوباء2010 صدرتا عن دار ميريت. وتحت الطبع رواية نور, ومجموعة قصصية بعنوان حتي يكف القلب عن الدق. (1) البريد الإلكتروني: [email protected]