متي تتطهر وزارة الثقافة؟ هذا هو السؤال الذي طرحه الدكتور سعيد توفيق رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة, علي صفحات الأهرام في الثامن والعشرين من يوليو الماضي فعبر به عن هواجس الحياة الثقافية إزاء ما كان يحكم أنشطة هذه الوزارة, في عهد وزيرها السابق فاروق حسني, من مجاملات وتجاوزات أفرغت فكرة الثقافة من معناها, وشقت وحدة المثقفين فميزت ما بين معسكرين: معسكر أهل الولاء الذين أغدق عليهم الوزير وأعوانه, ومعسكر المستقلين الأحرار الذين لقوا ما لقوه من عنت الوزير وانتقام الصغار من هؤلاء الأعوان المدافعين عن كراسيهم, قبل أن يدافعوا عن سياسة الوزير أو الخفير! وكان معسكر أهل الولاء بلا شك هو الأغلب والأكثر عددا, وهذا هو ما جعل بعض أعوان الوزير يتيهون بأنهم قد نجحوا في إدخال قبيلة المثقفين من أدباء وفنانين وكتاب إلي الحظيرة! وكم فاتهم أنهم هم أول من دخلها, إذ ساقهم فاروق حسني إليها كما تساق السائمة! بعد أن أسال لعابهم بالمناصب وأغراهم بالرواتب. ومن هؤلاء من كان ناقدا مبشرا, أو أستاذا جامعيا واعدا, فترك رسالته المقدسة وهجر البحث والدرس إلي نوع من الكتابة الدعائية التي تميل مع الريح حيث تميل! فإن كان الشعار المرفوع هو( التنوير), فقلمه جاهز لينور العقول وهو المظلم! وإن كانت قضية حقوق المرأة هي المطروحة علي الساحة, انبري ليناصر المرأة وهو عدوها! غير أن الدكتور سعيد توفيق لم يقف إلا عند مظهر واحد من مظاهر الفساد في وزارة الثقافة, وهو ما يتمثل في جوائز الدولة التي توزع سنويا, فلا ينال أغلبها إلا من رضي عنهم الوزير وأعوانه, ولا بأس في أن يذهب أقلها إلي من يستحقون, من قبيل ذر الرماد في العيون! وإلا فهل يعقل أن يحارب أعوان الوزير الصغار مفكرا من الطراز الأول في قامة فؤاد زكريا, لكي يحرموه من الجائزة التي رشح لها مرات أربع بمساعدة نظام تصويت فاشل وأعضاء يجهلون ما يصوتون عليه! وليس من سبب وراء هذه الحرب غير الشريفة, إلا أن فؤاد زكريا كان ذات يوم قد رفض نشر كتاب ضعيف المستوي لأحدهم في سلسلة( عالم المعرفة) التي كان يشرف عليها! وليست مسألة جوائز الدولة في الحقيقة, إلا مجرد وجه واحد من وجوه الفساد الذي باض وأفرخ في مؤسسات وزارة الثقافة طوال ولاية فاروق حسني, فأصارها إلي ما وصلت إليه من ترد وانحراف, وكنت في منتصف التسعينيات قد كتبت مقالا بعنوان( الحبابكة والألياث في واقعنا الثقافي) أشير فيه بالاسم إلي بعض رموز الفساد في مؤسسات الوزارة, ولكنها كانت مجرد صرخة في واد! فما من مستمع, وما من مجيب! ولو أن أحد الذين يمتلكون الوثائق والمعلومات الرسمية قد تقدم اليوم ببلاغ إلي النائب العام, عن المستشارين الصحفيين الذين كانت تجزل لهم العطايا من مكتب الوزير مثلا, أو من المجلس الأعلي للثقافة والمجلس الأعلي للترجمة, لكشف أمام الحياة الثقافية عن حجم الفساد الذي ينعم فيه صحفي صغير برشوة شهرية مقنعة, تساوي مرتب خمسة من أساتذة الجامعات تقريبا, لا لشئ إلا لتنشر أخبار هذا المسئول أو ذاك بانتظام, وتطل علينا في الصحف طلعته البهية! بل إن الأمر قد وصل إلي حد مزر, حين خصص الوزير السابق صحفا فاشلة يرأس تحريرها صبية صغار, وتصدر عن هيئة قصور الثقافة حتي هذه اللحظة! ويتقاضي رؤساء التحرير الصغار هؤلاء, أضعاف ما يتقاضاه أي رئيس تحرير آخر في دورية جادة محترمة! لا لكفاءة منقطعة النظير, ولا لموهبة قل أن يجود بها الزمان! اللهم إلا كفاءة المجالسة والمؤانسة, وموهبة النميمة ليس غير! وحين تم اختيار الدكتور عماد أبو غازي وزيرا للثقافة بالطريقة التي نعرفها جميعا, وكان المثقفون يعرفون أسرار كواليسها, ومع ذلك فإن كل من كان علي صلة بشخص الدكتور عماد ويدرك نقاءه ونظافة يده, قد تفاءل واستبشر خيرا, وقد كنت أنا من هؤلاء. كنت أراهن علي أن ولاء الدكتور لنفسه سينسيه ولاءه لمن عينوه أمينا للمجلس الأعلي للثقافة, ثم وزيرا للثقافة, وكنت لا أشك في أن إخلاصه للثقافة المصرية سيبقي فوق إخلاصه للأشخاص! لكن الدكتور عماد لم يكن عند حسن الظن به في كثير من القرارات التي اتخذها, فقد جري فيها علي النهج القديم الفاسد ذاته, نهج فاروق حسني ورجاله المقربين, فعين من عين واستشار من استشار! ولعل أغرب من رمي به الحياة الثقافية هو أمين المجلس الأعلي للثقافة, الذي لم يعرف له أحد دورا ثقافيا ملحوظا, ولا نشاطا ثقافيا ذا قيمة. وحين أقدم الوزير علي تصحيح الخطأ بعد طول مكابرة وعناد, فعين منذ أسبوع الدكتور شاكر عبد الحميد أمينا جديدا للمجلس الأعلي للثقافة, كان لا بد من أن تعرب الحياة الثقافية عن ارتياحها لهذا القرار الذي تأخر كثيرا, فالدكتور شاكر عبد الحميد عالم وباحث ومترجم من الطراز الأول, كما تشهد بهذا أعماله الغزيرة القيمة ترجمة وتأليفا, وكما يشهد دوره الفاعل في الحياة الثقافية والأكاديمية علي المستويين المصري والعربي; وهو فوق هذا وذاك, أحد القلائل المعروفين بالنزاهة الخلقية وطهارة اليد بين المسئولين الكبار في وزارة الثقافة, وكنا في السنوات الماضية لا نكاد نجد من بينهم سوي واحد أو اثنين, مثل محمد صابر عرب في دار الكتب, وسمير غريب في جهاز التنسيق الحضاري. لقد جاء تعيين الدكتور شاكر عبد الحميد أمينا للمجلس الأعلي للثقافة, ليعيد إلينا الأمل بعودة النشاط الثقافي النزيه الفاعل, خاصة أن الدكتور شاكر يعلم تماما حجم المفاسد التي نخر سوسها في كيان المؤسسات الثقافية المختلفة, تحت قيادة رجال فاروق حسني, الذين يجمعهم علي اختلافهم نفاق أولي الأمر من الطغاة والمستبدين في مصر والدول العربية, طمعا في نوالهم وفي حصد جوائزهم, فمن صدام حسين إلي القذافي, وكل من علي رأسه بطحة, لعله الآن يتحسسها! هل هي بداية تصحيح المسار؟ هل هي ريح الثورة بدأت تهب علي وزارة الثقافة؟ هل بدأ وزير الثقافة يدرك أن ولاءه للمباركيين والقذافيين سيكون علي حساب نفسه, بل فوق هذا علي حساب الثقافة المصرية ذاتها؟ سوف لا نتعجل الجواب, لأن الأيام القادمة ستساعدنا علي أن نضع أيدينا علي الجواب الصحيح. وربما كان من الخير لنا أن نتمسك بشئ من التفاؤل, فها نحن نري كيف أن المخازن المهجورة للهيئة العامة للكتاب قد تحولت بما يشبه المعجزة, إلي معرض رمضاني للكتب عامر بالأنشطة الثقافية, وأين؟ في قلب المنطقة العشوائية بشارع( فيصل) حيث يبلغ الزحام مداه! ومثل هذا الإنجاز ما كان له أن يتحقق إلا بقرار شجاع من رئيس الهيئة الدكتور أحمد مجاهد; غير أن قرارت أخري شجاعة لا تزال بحاجة إلي أن تتخذ! سننظر إلي تلك الوقائع علي قلتها, ونقنع أنفسنا بأنها مجرد بداية علي الطريق السليم, إلي أن يثبت العكس! المزيد من مقالات حسن طلب