ثلاث كلمات هي الأكثر تداولا في الخطاب السياسي الفسلطيني كل يوم, فضلا عن شيوعها في الجدل العربي العام. وهي في الوقت نفسه الأبعد عن الواقع الذي يشهد تدهورا متواصلات في الوضع الفلسطيني علي نحو يجعل القضية الوحيدة الباقية من عصر التحرر الوطني في خطر داهم. ولا عجب في ذلك ما دام المؤتمنون علي هذه القضية في الفصائل الفلسطينية, وخصوصا في الحركتين الرئيسيتين فتح وحماس, لم يعودوا قادرين علي حمل الأمانة. صغر القادة الذين عرفهم العالم كبارا في مرحلة سابقة, فتراجعت القضية التي ينظر العالم إليها من خلالهم وعبر أدائهم ومواقفهم وسلوكهم. أفرط من حملوا القضية في خصوماتهم إلي أن صاروا لبعضهم البعض أعداء, وذهبوا بعيدا في هذا العداء إلي أن بات صعبا تحقيق مصالحة بينهم. كما فقدوا الاتجاه ودخلوا في حال تيه لا يبدو أنهم قادرون علي الخروج منها في أي أفق منظور. ويتساوي في ذلك من اعتبروا المفاوضات طريقا وحيدا إلي الحلم الوطني, ومن رفعوا شعار المقاومة, واعتقدوا في أنها سبيلهم الذي لا شريك له إلي إلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني. وإذ حدث هذا كله, وخلق معطيات مؤلمة أخذت تتراكم علي مدي السنوات الأخيرة فوق ما كان قد سبقها من خيبات, أصبحت الكلمات الثلاث المفتاحية التي تبدأ بالحرف م بلا معني في الواقع الفلسطيني الراهن. فقد مفهوم المصالحة دلالته المعروفة علي أن لكل خلاف حلا. واثبت المختلفون في الساحة الفلسطينية أنهم محصنون ضد التصالح الذي لن يكون لهم ولا لقضيتهم معني في غيابه. ولا مبالغة في ذلك. فقد تعاملوا مع جهود المصالحة كما لو أنها فيروس أو ميكروب يستجمعون كل مالديهم من مناعة لمقاومته. فلو أن الجهد المصري للتقريب بينهم منذ العام2003, قد بذل مع أعداء لا وجود لبعضهم إلا بتغييب تام للآخرين لربما أثمر شيئا. ولكن من كانوا مختلفين علي مواقف وأولويات عندما بدأ التحرك المصري المنظم لجمعهم صاروا متنازعين علي سلطة وهمية تبين يوما بعد يوم أنها كانت نذير شؤم يوم أن أقيمت قبل نحو16 عاما. ونجد بعضهم الآن يرقصون حول دماء أحدهم اغتيل في دبي, ويتبادلون الاتهام بالتواطؤ مع جهاز المخابرات الإسرائيلية موساد دون أن تعرف حمرة الخجل طريقا إلي وجوههم. وفيم الحياء بعد أن توطن الداء وانتشر, فلم يعد العدو عدوا ولا بات الصديق صديقا. فكأن الانهيار لا يوفر شيئا ولا يستثني الأخلاق التي هي أساس النضال الوطني التحرري ورأسماله الذي لا يبقي منه في غيابها إلا ما كان له من تاريخ. فقضايا التحرر الوطني تستمد قيمتها مما تملكه من عدالة وما تمثله من حق. وهذا هو مصدر قوتها الأخلاقية التي هي بدورها المتبع الذي ينهل منه المناضلون في سبيلها جيلا بعد جيل ما يمكنهم من الصمود ومواجهة ظلم المستعمر. غير أن المغزي الأكثر مباشرة لهذا السقوط الأخلاقي المريع, الذي لم يكن ممكنا قبل سنوات قليلة, هو أن تحقيق المصالحة أصبح في حاجة إلي معجزة. فكيف يتصالح حقا وصدقا من يشتبه علي الأقل في تعاونهم مع عدوهم المشترك ضد بعضهم البعض! وما الذي يبقي حين يتهم بعضهم مصر بأنها السبب في فشل جهود المصالحة( أي جهودها), في الوقت الذي يتبادلون هم الاتهام بالتواطؤ مع الموساد؟ ولا يحتاج الأمر إلي كثير من البحث للإجابة بأنه لم يبق لهم عمل نافع يعملونه لا في إدارة العلاقات بينهم, ولا بشأن قضيتهم التي فرطوا فيها. فبدون مصالحة وطنية لن يكون للمفاوضة ولا للمقاومة من اسمها نصيب. وهذا هو ما يحدث الآن فعلا. فقدت المقاومة محتواها النضالي التحرري عندما جعلوها شعارا فارغا من أي مضمون, ووضعوها سيفا علي أعناق بعضهم البعض وأشهروها في وجه كل من يسعي إلي تصحيح مسارهم أو إصلاح بعض ما يفسدونه. بدأ هذا المنحي الهزلي باختزال المقاومة متعددة الأساليب بطابعها في أسلوب واحد هو العمل المسلح, وتسفيه مختلف أشكال المقاومة الشعبية الواسعة التي يشارك فيها من يقدر علي حمل السلاح ومن لا يستطيع فتتسع بالتالي لفئات الشعب كلها وليس لقلة قليلة منه. ولم يلبث العمل المسلح أن اختزل بدوره في أسلوب القنابل البشرية الذي أمعن البعض في محاولة إضفاء قدسية عليه فأسموه عمليات استشهادية, وعطلوا باقي أساليب المقاومة العسكرية منها والمدنية. فلما اضطروا إلي وقف هذا الأسلوب بعد أن سهل مهمة الإجرام الصيهوني في خلط المقاومة الوطنية بالإرهاب, خلت الساحة من أي مقاومة مسلحة فاعلة, في الوقت الذي كانت المقاومة الشعبية قد انحسرت وصارت مقصورة تقريبا علي مبادرات احتجاجية محدودة في بعض القري الصغيرة ضد الجدار الإسرائيلي العازل. ولم تكن المفاوضة أفضل حالا. فالإسرائيليون لا يريدون الجلوس علي مائدة ليتفاوضوا عليها, وإنما لكي يرفع الفلسطينييون الراية البيضاء وهم قادمون إليها, فيكون الاتفاق الذي يتمخض عنها لإعلان استسلامهم وليس لإقامة سلام معهم. ولأن الطرف الفلسطيني الذي وضع أوراقه كلها في سلة الحل السلمي مضطر إلي التفاوض الذي لا بديل عنه بالنسبة إليه, ولحاجة الراعي الأمريكي إلي ما يبدو أنه تحرك سلمي, أخذت المفاوضات تتحول إلي ما يشبه هدفا في حد ذاتها. وما كان لإسرائيل أن تفرض إيقاعها علي هذا النحو وإلي ذلك الحد إلا بعد أن ازداد الفلسطينيون ضعفا بسبب انقسامهم وتبديدهم ورقة المقاومة نتيجة خلافهم عليها وإساءة بعضهم استخدامها قبل أن يضعوها جانبا ويمنعوا حتي غيرهم من استعمالها للمحافظة علي مصالح باتت هي الأهم لديهم كما لخصومهم في الساحة الفلسطينية. وهكذا أصبحت المصالح هي العائق الرئيسي أمام المصالحة التي صارت بعيدة المنال في الوقت الذي لم يعد المتخاصمون أصحاب هذه المصالح قادرين علي المفاوضة ولا علي المقاومة. وإذ يبدو أن هذا الوضع البائس مرشح للاستمرار إلي أجل غير معلوم, بما يحمله من خطر تلاشي القضية الفلسطينية, فلنجرب إقناع أصحابها الذين صاروا أعداء بأن يكتفوا بوضع حد لهذا العداء وأن يحاول كل منهم أن يعمل عملا صالحا في المنطقة التي سيطر عليها عسي أن تجد أجيال جديدة ما يمكن أن تبني عليه بدلا من أن يتركوا لها أطلالا تبكي عليها. فليحاول دعاة المفاوضة الذين لا يفاوضون بناء ركائز لدولة غير منظورة الآن. وقد بدأ رئيس الوزراء في الضفة سلام فياض عملا في هذا الاتجاه يرجي أن يكون جادا وأن يتركه مناكفوه هناك لإنجازه. وليحاول دعاة المقاومة الذين لا يقاومون المحافظة علي التراث الفلسطيني في هذا المجال ومراجعة تجربتهم المحبطة وأخطائهم المتراكمة ووضع كل ذلك بين أيدي جيل قد يكون أكثر إدراكا لمعني المقاومة ودورها.