تحقيق- طارق مهدي مازالت مصر تطفو فوق بحيرة فساد راكدة لم تفلح معها ثورة25 يناير.ومازال المواطن الفقير الضعيف يتمتع بكرامة وعزة نفس تجعلانه لايمد يده طلبا للمساعدة حتي وإن كان ضحية.. حتي وإن كان علي شفا الهاوية.. حتي وإن كان يحمل فوق كاهله مسئوليات جسام. نحن نحلم جميعا بمصر أخري, لكننا نعلم أن الوقت بيننا وبين شروق الشمس لايزال بعيدا, وإذا كنتم لا تصدقون اسألوا ماهر عما حدث له واطلبوا الرحمة من ربنا. ماهر عبدالفتاح مواطن بسيط مثله مثل ملايين المصريين البسطاء.. لكنه تعرض لاختبار شديد القسوة وكان يمكن أن يخرج منه بحل سحري حصل عليه من خلال تقرير طبي رسمي يستطيع من خلاله الحصول علي علاج مجاني ومعاش شهري وتعويض لأنه التقرير يعتبره من مصابي الثورة, لكنه رفض أن يحتضن ضميره ويتركه ينام بجواره علي فراش المرض, بل أصر علي إيقاظ ضميره, وصرخ بأعلي صوته: لست بطلا من أبطال الثورة ولكني ضحية لإهمال الاطباء.. ولن أقبل أي جنيه من تعويضات ضحايا الثورة لا أستحقه, ولن يدخل بيتي قرش حرام!. الحقيقة أننا عندما سألنا ماهر عن قصته اكتشفنا أنه يستحق بجدارة لقب البطل.. وهذا ما نترككم تكتشفونه معنا في السطور التالية, ولكن قبل أن نسرد قصته سنحكي لكم بعض تفاصيل عن حياته.. فعمره أربعة وخمسون عاما, يعمل أو قل إنه كان يعمل باليومية في مصنع للزجاج, يعيش في بيت متواضع متهالك في روض الفرج في شقة بالدور الأرضي لا تدخلها الشمس, بمجرد أن تدخل من الباب تجد السرير الذي لايبارحه الا للذهاب للأطباء علي يمينك, وتوجد كنبة بسيطة لجلوس الضيوف, ولكن قبل أن تدخل إلي المنزل الذي يعيش فيه تجد أمام البيت طاولة عليها بعض أنواع البسكوت تبيعه زوجته الصابرة أم أسماء حتي لا تمد يدها بعد أن صار زوجها قعيدا, وماهر لديه ثلاث بنات أكبرهن أسماء وهي شابة متزوجة تصاحب والدها في مشاويره للأطباء بمستشفي معهد ناصر, وابنته الثانية أميرة في الشهادة الاعدادية والثالثة لمياء في الصف الثاني الاعدادي. قصة ماهر بدأت عندما دخل مستشفي معهد ناصر في الرابع والعشرين من يناير الماضي بعد أن شعر بتعب شديد في القلب, وفي المستشفي قرر الأطباء اجراء قسطرة برغم ارتفاع السيولة في الدم( بلغت ثلاثمائة وخمسين) وأصر الطبيب علي عدم تأجيل القسطرة خاصة أن اليوم التالي كان اليوم الموعود لأول مليونية في مصر للثورة الشعبية, ولم يكن الطبيب يريد بقاء ماهر في المستشفي دون علاج أو خروجه لحين استقرار السيولة وسط الأوضاع العامة في البلاد والتي كانت الأولوية بعدها في المستشفيات لمصابي الثورة. لم ينتظر الطبيب ضبط مستوي السيولة في الدم خاصة أن ماهر مريض بالسكر فسارع بعمل القسطرة, وحدث ما كان متوقعا في مثل هذه الحالة: بدأ الدم ينزف من مكان دخول القسطرة في الفخذ اليمني لماهر, هنا أدخل الطبيب سرنجة في مكان النزيف لايقاف الدم المتدفق.. وبدلا من إبقاء ماهر في المستشفي حتي يتوقف النزيف ويطمئن عليه فقد ذهب إليه الطبيب في الثانية عشرة والنصف بعد منتصف ليلة دخوله المستشفي. وقال له: ستخرج الآن! وعندما أخبره بأنه لايزال ينزف دما, نزع الطبيب السرنجة من مكانها ووضع بدلا منها قطعة قطن طبي وطمأنه إلي أن النزيف سيتوقف.. وعندما حذر المرضي في العنبر ماهر من أن خروجه الآن خطر علي حياته قال لهم: وهل سأفهم أكثر من الطبيب؟ خرج ماهر علي قدميه ومعه ابنته أسماء وعاد إلي البيت في صباح يوم الخامس والعشرين من يناير, وبعد وصوله إلي المنزل ظل يتبع تعليمات الطبيب وخاصة تنظيف مكان الجرح من بقايا الدم الذي ينزف ووضع القطن الطبي لمنع تلوث الجرح, لكنه ظل اسبوعا كامل يشعر بأن حالته الصحية لاتتحسن, ولم يعد يطيق تحمل الألم الذي كان يتزايد, فعاد مرة أخري إلي المستشفي يوم2 فبراير, وبعد الكشف الطبي عليه شخص الأطباء حالته في التقرير الطبي بقصور حاد بالدورة الدموية بالساق اليمني, وحتي ينقذوا حياته قرروا الاسراع ببتر ساقه فوق الركبة نتيجة الغرغرينة التي تسبب فيها إهمال الطبيب المعالج الذي أخرجه من المستشفي بدون أن يطمئن علي توقف النزيف. بعد خروجه من المستشفي عاد ماهر إليه يوم التاسع من فبراير للعلاج من نزيف بالشريان الفخذي, وظل يداوم علي العلاج حتي عاد إلي المستشفي مرة أخري يوم الرابع والعشرين من مايو وتم عمل رقعة جلدية من الفخذ اليسري لتغطية الجرح في الفخذ اليمني. ولأن ماهر عامل بسيط باليومية لايملك سوي صحته وقبلها ايمانه القوي بالله, فقد تعاطف معه الأطباء المعالجون وأرادوا مساعدته, ولعلمهم بأنه لن يحصل علي أي تعويض من الطبيب الذي أهمل في علاجه, أو من المستشفي فقد أرادوا أن يجاملوه ويقدموا اليه خدمة العمر فحرروا له تقريرا طبيبا صادرا من المستشفي ومعتمدا بتأشيرة حوادث مظاهرات ولم يسجلوا فيها التاريخ, وذكروا في خانة التشخيص الاكلينيكي: نزيف ثانوي من الشريان بالفخذ اليمني نتيجة طلق ناري وتم دخول المريض دخول عاجلا إلي المستشفي لانقاذ حياة المريض وأخذ العلاج المناسب ووقع الأطباء المسئولون وختمت ادارة المستشفي التقرير بخاتمها وقدمته لماهر وابنته لتقديمه الي الجهات المختصة لصرف التعويضات وتقرير المعاش الشهري الذي يستحقه باعتباره من مصابي الثورة! الحقيقة أن التقرير الذي كتبوه أرادوا به مساعدة ماهر الذي لايتجاوز ما كان يكسبه المائتي جنيه اسبوعيا وقد فقدها ولايوجد تأمينات او معاش له او لأسرته, فان الأطباء أيضا تفتق ذهنهم عن هذا التقرير كحيلة لمنع التحقيق مع زميلهم الذي تسبب باهماله وخطئه في بتر ساق ماهر, كما أرادوا أيضا عدم التحقيق مع المستشفي.. لكن برغم احتياج ماهر لأي مبلغ ولو كان بسيطا فقد رفض بعزة نفس أن يقدم هذا التقرير لأي جهة حتي أنه ظل علي موقفه الي يوم الاثنين الماضي مع غلق باب التقدم بطلبات التعويضات لصندوق ضحايا الثورة وأصر علي أنه لن يقبل التعويض لأنه لايستحقه وإن كان يتمني لو كان بصحته ليشارك في ثورة الخامس والعشرين من يناير حتي لو قدم روحه فداء, لكنه لايستحق التعويض ولايستحق لقب البطل كما يقول ولايدعي لنفسه شرف المشاركة والتعرض لطلق ناري كما قال التقرير السحري! علي النقيض فان الأطباء الذين يشرفون علي علاجه الآن بمستشفي معهد ناصر يعتبرونه بطلا ويتابعون حالته بانتظام, كما أن وزارة الصحة قررت علاجه علي نفقة الدولة وتجري له الآن جلسات علاج طبيعي, لكن لأنه لم يتعود علي الرقود في الفراش او التحرك بمساعدة زوجته او بناته بينما كان هو الذي يراعيهن, فانه عندما زرناه فرت من عينيه دمعة كان يحاول أن يخيفها ويحرص علي ألا تفر من جفونه لكنها خانته وهربت لتلمع امام فلاش الكاميرا. سألت ابنته الكبري أسماء: هل تحتاجون الي أي شيء؟! قالت: مستورة.. والحمد لله فهو يتناول العلاج بانتظام قدر الامكان سألتها: كم يتكلف علاجه؟قالت: نعالجه علي نفقة الدولة وإن كنا نشتري له دواء يتكلف الشريط الواحد خمسة وثلاثين جنيها ونشتريه كلما اكتمل لدينا هذا المبلغ, لكن ما يحتاجه الآن هو عكازان حتي الكتف ليسهل عليه الحركة والاستناد اليهما خاصة أن بقاءه في السرير سواء نائما او جالسا لمدة طويلة يسبب ارتفاع درجة حرارة الفخذ عند مكان البتر, وهو ما حذره منه الأطباء وطلبوا منه أن يتحرك باستمرار, ولهذا لابد من العكازين. الحقيقة أن قصة ماهر عبد الفتاح لم تنته بكتابة هذه السطور, لكنها بدأت ونحن معه حتي يصل صوته الي المسئولين لمحاسبة المهمل والمخطيء وتعويضه عن هذا الاهمال فحقه ليس في صندوق مصابي الثورة, ولكن لدي الطبيب والمستشفي وان طال الزمن! أيضا يحدونا الأمل في أن يشارك أهل الخير في مساعدته برغم أنه لم يطلب ذلك, لكن نهر الخير عندما يفيض لايستأذن من يتدفق عليهم!