كان أردوغان محقا, وهو يزهو من شرفة مقر حزبه بحي بلجت الشهير بوسط العاصمة أنقرة وبجانبه وقفت زوجته المحجبة السيدة أمينة اهانمب تشاطره السعادة والفرح, عندما قال أمام حشد من إنصاره عقب الفوز في الانتخابات التشريعية الشهر قبل الماضي أن ما حققه العدالة ليس نصرا للشعب التركي فحسب بل هو انتصار للشعوب, المتعطشة لنيل الحرية, في الشرق الأوسط ومقدونيا والبوسنة. وزاد قائلا علي العدالة أن يفخر بأنه أصبح نموذجا يحتذي به في البلدان العربية والإسلامية. فالقمع الممنهج وغير الممنهج, وإنتهاك الحريات الشخصية للبشر وإهدار أدميتهم وإمتهان أجسادهم سواء كانو رجالا أو نساءا, مفردات سحقتها الديمقراطية التركية منذ سنوات وجاء العدالة ليغلق عليها الباب إلي الابد. نعم أن قادة العدالة والتنمية الحاكم, علي خلاف نظائرهم من زعماء الأحزاب السياسية الذين سبقوهم إلي حكم البلاد طوال عقود الجمهورية بما فيها الحزب الديمقراطي بزعامة الثنائي المحافظين المتدينين عدنان مندريس وجلال بايار, يهتمون بالحجاب ويجللونه, ونساؤهم معظمهن يرتدين غطاء الرأس ومعه لباس محتشم يكاد يلامس الأرض صيفا وشتاء, لكنهم في الوقت ذاته لايدعون إلي تعميمه فقط إحترام رغبة من يريدن إرتدائه, وداخل أسرهم لا يجبرون بناتهم عليه. ومريدوهم من رجال المال والأعمال وهم الآن كثروا يملكون المصانع والمراكز التجارية وأنشطة صغيرة وكبيرة علي السواء لا يسخرون من السافرات العاملات لديهم أو يفضلن عليهن المحجبات اللاتي يغطين رأسهن. وعلي الرغم من أن هؤلاء القادة وبحكم خلفياتهم الدينية يعرفون أكثر من غيرهم ما هو الحرام, فإنهم لا ينصبون من أنفسهم وعاظا أو آمرين ينتظرون الطاعة المطلقة, فقط يشيرون إليه, ينهون وبلطف مواطنيهم بالابتعاد عن الشبهات, ورغم سطوتهم علي البرلمان فإنهم لا ينتهزون الفرص ويصدرون قوانين تمنع هذا المنكر أو ذاك, وها هو رئيس رجب طيب اردوغان يوجه حكومته أن يتخذ من الإجراءات اللازمة للحيلولة دون وضع زجاجات الخمور في مقدمة افتريناتب المحالات, وأماكن اللهو العامة, وأن تتواري في الخلف حرصا علي الشباب والنشء, الطريف أن موجة إعتراض عاتية أنطلقت رافضة وشاجبة تلك التوجيهات, ومع هذا لم تخرج الحكومة ورموزها ومعظمهم من مدارس أمام خطيب الإسلامية متوعدة المعترضين الغاضبين بنعوت الكفر والضلال والوعيد بأنهم سيصلون نار جهنم إن لم يرتدعوا ويعودوا إلي جادة الصواب. وعندما تبين تعرض مصالح أصحاب تلك الانشطة للضرر تم العدول عما سبق اتخاذه وعادت الاوضاع إلي سابق عهدها. وقبل سنوات حاول اردوغان تعديل بعض أحكام قانون الزني بهدف إعطاء بعض الحق للزوج في الدفاع عن شرفه, إلا أن أقلام في الصحافة وكذا بعض الاحزاب والعديد من المنظمات النسائية والمجتمع المدني قادت حملة ضارية, افضت في النهاية إلي تراجعه, ولم يعاود الكرة مرة أخري رغم ما يتمتع به من أغلبية. ونظرة واحدة علي هيئة الاوقاف الدينية وهي مؤسسة حكومية رسمية نجدها وبدعم سخي من القائمين علي إدارة البلاد والعباد, ترعي أحوال مواطنيها المسلمين وتقدم لهم النصح والارشاد, لكنها وبحكم القانون لا يمكنها أن تطالب بمنع ما قد يخالف تعاليم الدين الحنيف, أو الدعوة إلي تطبيق الشريعة أو المطالبة بتعدد الزوجات وإعطاء الذكر حظ الأنثيين في الميراث ثم كيف لها أن تفعل ذلك ورئيس الجمهورية عبد الله جول ومعه رفيق دربه رئيس الحكومة سبق لهما في أكثر من مناسبة أن نفيا بشكل قاطع أي نكوص يستهدف العلمانية رافضين في الوقت ذاته أن تنعت دولتاهما بصفة الجمهورية الإسلامية. ورغم كل ذلك لم تتأثر الكتلة التصويتية سواء لزعيم الحزب أو قادته بل زادت لكليهما معا, زاد علي ذلك أن العدالة أعاد للجمهورية العلمانية وجها دينيا خالصا لم يكن موجودا بنفس زخمه الآن قبل عقد من الزمان ولعل شهر رمضان خير شاهد فالآلاف من الشباب يقبلون علي الصيام في قيظ صيف لافح ونهار طويل, والمساجد بعد أن تزينت إحتفالا بتلك المناسبة العزيزة ها هي تكتظ بأفواج المؤمنين الذين يلبون نداء الآذان الموحد. وفي الهياكل الإدارية للدولة يستمر العمل الذي لم تتغير عدد ساعاته تحت بند رفقا بالصائمين فهذا ليس موجودا في قاموس العدالة الذي يري أفضل تعبير عن الصوم هو أن يؤدي كل فرد ما هو مطلوب منه من أجل رفاه الوطن. لكن الصورة العدالية لا تخلوا من بعض أمراض العالم الثالث القاتلة فاردوغان كائن لا يطيق النقد وتخونه الفاظه فيشن هجوما لاذعا ضد من ينتقده, وفي عهده شهدت الصحافة والاعلام إجمالا وتراجعا وهو ما جعل الاتحاد الاوروبي, ومازال يوجه نقدا قاسيا لحكومته لحصارها حرية التعبير في عموم الاناضول, ورغم ما يدعيه من زهد في السلطة إلا أنه وفي قرارة نفسه شغوف بها مولع بأجواء السلاطنة, صحيح أعلن أنه لن يرشح نفسه من جديد للبرلمان لفترة رابعة, وبالتالي ستكون الحقبة التي بدأت عقب إنتخابات الثاني عشر من يونيه الماضي آخر عهد له برئاسة الحكومة حتي تتاح الفرصة أمام الأجيال الشابة, إلا أنه في المقابل يطمع في الكشك أي القصر الجمهوري شريطة أن يتمتع بكل الصلاحيات ولهذا سيبذل قصاري جهده من أجل إنتقال بلاده من النظام البرلماني إلي الرئاسي حتي يكون مثل اوباما في الولاياتالمتحدة لكن بطبيعة الحال بدون كونجرس بمجلسيه النواب والشيوخ. وبما أن فترة الرئاسة الواحدة خمسة سنوات أي بحسبة بسيطة ينتظر أن يظل الرجل في الحكم حتي عام2026 لكن هذه الثقوب رغم أهميتها تبق جزءا في مساحة مازالت زاخرة ومليئة بالحيوية, خاصة أن السيناريو الذي يحلم به اردوغان صعب تحقيقه ومن ثم تظل وريثة الامبراطورية العثمانية في ثوب العدالة والتنمية رغم بعض العوار نموذجا يحتذي به وليته يجد طريقه لبلدان الشرق الأوسط.