نقلا عن / جريدة الاتحاد الاماراتية 26/07/07 ياله من صخب عارم، هذا هو حال البلاد حتى مساء السبت الماضي، قلب العاصمة المعنون باسم (كيزلاي) بدا فضاؤه، وقد اكتسي باللون الأحمر من فرط أعلام أحزاب الشعب الجمهوري و''سعادات''، وعلى مقربة ظهرت ألوان صفراء ممزوجه بلون أزرق كأنها مصابيح العدالة والتنمية، على الأرض وفي الميادين، فيما انتشرت عشرات من الفتيات يروجن للعدالة، وقد بدت أذرعتهن البيضاء مكشوفة للشمس الحارقة، ماذا حدث لشابات الحزب أين حجابهن؟ الإجابة جاءت لتقول: ''إن الفتيات متطوعات'' الخبثاء -وما أكثرهن - أكدوا أن الفتاة الواحدة حصلت على أجر يوازي خمسين دولارا، لكن الثابت أن قيادات الحزب -مؤقتاً على الأقل- تجاوزت مسألة غطاء الرأس، بل كانت التعليمات واضحة للمرشحين بضرورة توخي الحذر والحرص على عدم إثارة تلك القضية، لعل وعسى يستطيعون استمالة المترددين المتخوفين من الحزب ومرجعيته· وللتأكيد ها هو الحزب يرشح على قوائمه خمس عشرة سيدة، سافرات لم يرتدين الحجاب، وليس في نيتهن ارتدائه كما أعلن هن أنفسهن· في مقابل هذا المشهد وتحديداً في حي ''أولوس'' الحي الشعبي الشهير ومقر أول برلمان للجمهورية التركية، والقريب جداً من ''كيزلاي''، كانت الفتيات المحجبات هن اللاتي يروجن لدعايات الحركة القومية اليمينية، وهي بالمناسبة حمراء تتوسطها هلالات ثلاث رموز القوميين الصاعدين· هذا الزخم الذي ما بعده زخم آخر كان عليه أن يتوقف، طبقاً للقانون، فلابد من ساعات يلتقط فيها الجميع الأنفاس من مرشحين وناخبين استعداداً للتصويت، وكان على المواطنين أن يذهبوا إلى منازلهم في ساعة متأخرة من هذا اليوم الفاصل ليستيقظوا في الصباح، ليروا عاصمتهم وقد عادت إلى طبيعتها، فسماؤها أخيرا ظهرت زرقاء لا يحجبها شيء، فقد أزيلت آلاف الأعلام، أما الأركان فقد خلت تماماً من أكوام الملصقات الانتخابية ولم يقتصر الأمر على العاصمة والمدن الكبيرة فحسب بل كل عموم الأناضول، وهو يعني حرص الغالبية على الالتزام بالقواعد الموضوعة من أجل ضمان أكبر قدر من الدعاية النظيفة التي لا تستثني أي حزب من الأحزاب كبيرا أم صغيرا، فليس هناك قيود حديدية على المرشح، فقط ''ضع ملصقاتك بطريقة يسهل إزالتها''، وهذا ما حدث حتى يتفرغ المواطنون لعملية التصويت التي بدت ميسرة إلى حد كبير· ''السعادات'' فقد سعادته ومع بشائر النتائج الأولية عاد الضجيج، ولكن بأشكال مختلفة، فكان هناك صراخ الفرح، ونحيب الخاسرين، حي ''بلجت'' الشهير بدا خير مثال، والدليل على ذلك أنه ضم الفرح والغضب معاً، ففي ضفة عاش المئات من أنصار العدالة أمام مقر الحزب الفخيم الذي أنشئ حديثا فرحة الانتصار، أما على الضفة الأخرى من الحي نفسه، وبالقرب من مقر الخارجية التركية اكتسى الحزن منزل ''نجم الدين أربكان'' الأب الروحي لحزب سعادات الذي يبدو أن الكبار لفظوه قبل الشباب، ولا أحد يعرف حتى الآن على أي أساس قرر الحزب خوض غمار المنافسة ومواجهه جنينه -المتمرد- الحاكم، فكافة الاستطلاعات أبعدته تماما عن منافسة منافس حقيقي ويبدو أن القائمين عليه لم يدركوا بعد أن ''سعادات'' بماضيه وحاضره الغامض يسير بثبات نحو دائرة النسيان غير مأسوف عليه، بيد أن الحزب، في حال أي مراجعة حقيقية لأدائه، قد يغلق أبوابه من تلقاء نفسه· استقال من تلقاء نفسه حسناً فعل ''محمد علي آغر'' رئيس الطريق القويم سابقا (الحزب الديمقراطي حاليا) عندما تقدم باستقالته من رئاسة الحزب، بعد الخسارة التي مني بها، وعدم تمكنه من دفع الحزب في اجتياز حاجز ال 10 % ليحذو حذو السيدة ''تانسو تشيللر'' الرئيسة السابقة للحزب لقرابة عقد من الزمان (1993 - 2002) الفارق الوحيد أن الأخيرة اعتزلت الحياة السياسية برمتها، أما ''آغر'' فلم يعلن ما إذا كان سيعتزل العمل السياسي أم لا؟ على أية حال الاستقالة واجبة فهي اعتراف بالخطأ والقصور، فكان يكفيه قراءة متأنية لواقع الحياة السياسية، كي يتأكد أن الحزب بإمكانياته المتواضعة مقارنة بأحزاب أخرى لا مكان له بيد أن حليفه زعيم الوطن الأم ''أركان ممجو'' أدرك أن الفشل سيكون مصير اندماج الحزبين تحت عنوان ''الحزب الديمقراطي''، حتى وبعد الانفصال تأكد للسياسي الشاب ''ممجو'' المنشق من العدالة والتنمية، أن الوطن الأم بإمكانياته الحالية لن يتخطي ال 2 %، هنا آثر السلامة وقرر عدم المشاركة في الانتخابات حتى لا يضطر أن يقدم استقالته وهو مازال في بداية سلم الصعود، أمر آخر لم ينتبه إليه ''آغر'' ألا وهو ماضي الحزب وماضيه هو شخصيا، ثم ماذا فعل الحزب تحت زعامته طوال الخمس سنوات الماضية؟ فهل تمكن من أن يصحح مساره بعد إخفاقه في انتخابات نوفمبر قبل خمس سنوات أم أنه ظل عند نفس النقطة؟ الأقرب إلى الدقة أن الطريق القويم لم يعد مستقيماً لسببين، الأول ضحالة أداء القائمين عليه من جانب، ومتطلبات الخارج الأقوى من الحزب وهياكله· ''دنيز بيكال'' وصمت سيطول في ''شنكاياي'' حيث مقر الشعب الجمهوري، كاد الغضب يتحول إلى ثورة، لكن تدخل العقلاء من جانب، ومع المزيد من ضبط النفس من جانب آخر، حل الهدوء -مؤقتا- محل السخط، فليس هناك مفر من مواجهة الحقيقة، فالحزب الذي أسسه مصطفي كمال آتاتورك قبل أربعة وثمانين عاما في طريقه إلى الانهيار أن لم يكن قد أنهار بالفعل· إن صدمة شباب الحزب تبدو مروعة، هكذا قالت مفردات بدت وكأنها خرجت عنوة من أفواههم، لقد صدقوا ما قيل لهم، وأن الشعب الجمهوري قادم لا محالة ليحتل المكانة التي يستحقها من أجل إعادة تركيا إلى جادة الصواب، بعد أن خذلها العدالة والتنيمة· ولأنه لا يكف عن الكلام، ويمكنه رغم أن عمره الذي يتقرب من السبعين سنة، الحديث لست ساعات متتالية دون كلل أو ملل، فقد أوعز ''دنيز بيكال'' إلى جمهوره أن الحزب لن يكتف بتحقيق النصر المبين فحسب، بل سيكون قادراً على قيادة البلاد، ووقف جنوح الإرهاب الكردي، والحفاظ على علمانية الدولة، بخصوص تلك النقطة اعتقد ''بيكال'' أن الآلآف الذين خرجوا في كل أنحاء البلاد قبل أسابيع، منددين بأي مساس بمبادئ الدولة، ما هو إلا تصويت غير مباشر على الشعب الجمهوري حامي حمى المبادئ الستة للجمهورية الكمالية، وهذا ما ثبت خطئه· ثمة موهبة أخرى يمتلكها الرجل ألا وهي تبرير الفشل، وقد تمكن من العودة للحزب بعد غياب قصير عقب فشله المدوي في انتخابات إبريل عام 1999 وعدم استطاعته تجاوز نسبة ال 10 %· الغريب أن ''بيكال'' وطوال الخمسة عشر شهراً ، لم يترك مناسبة إلا ودعا فيها إلى ضرورة إجراء انتخابات مبكرة، معتقدا أنه سيعيد بنتائج تلك الانتخابات التي يدعو لها' التوازن للبرلمان، كذبة صار يرددها حتى صدقها هو نفسه، لتصبح هي الحقيقة بعينها، ومن ورائه تمادت عناصر قيادية بالحزب في تخيلاتها، وراحت تشحذ الهمم دون أن تنتبه إلى أن الجماهير كانت قد قررت وحددت الحزب الذي ستعطيه أصواتها· وتأتي الطامة الكبرى، فانطاليا المدينة الساحلية جنوب تركيا ومسقط رأس زعيم الشعب الجمهوري فضلت العدالة والتنمية أما أبن المدينة فليذهب هو وحزبه للجحيم· الطريف هو أن ''بيكال'' قلل من أهمية الاستطلاعات التي كانت تؤكد أن الشعب الجمهوري، لن يبرح النسبة التي سبق وحققها قبل خمس سنوات في الانتخابات المبكرة التي جرت في نوفمبر عام ،2002 ولم يكتف بذلك بل راح يتهم خصومه بتمويل تلك الاستطلاعات، وأوعز إلى شباب حزبه بألا ينجرفوا ويصدقوا أوهام استطلاعات الرأي، وعندما سأله أحد الصحفيين ما هو الموقف إذ لم يتخط الحزب نسبة ال 10 %، هنا رد '' بيكال بطريقة حاسمة: لو حدث ذلك فأتعهد أمامكم بأن أسبح في بحر ايجه والذهاب الى اليونان عقابا لي''· أمام هذا المشهد الفكاهي تفتق ذهن شباب العدالة والتنمية إلى حيلة ساخرة إذ قاموا بإرسال حقيبة بها أدوات سباحة مع تعليق بسيط ''نتمنى لكم سباحة موفقة وإقامة دائمة باليونان فحزبكم مصيره الفشل''، وبما أن قناعتهم أكدت لهم أنهم في المقدمة، فما كان أمام شباب الشعب الجمهوري سوى أن يرد على الإهانة بأخرى لا تقل عنها فأعدوا حقيبة مماثلة في الحجم لتلك التي أرسلوها لزعيم حزبهم، ثم وضعوا بداخلها ملابس داخلية، وخف، وفرشاة أسنان مستعملة وصابونه من النوع الرديء، وهي لوزام تصاحب أي سجين جديد، وغلفوا كل ذلك مع تعليق كتب على مقدمة الحقبة : السجن قريبا سيكون مصير زعيم حزبكم، وهو بالمناسبة خريج سجون سابق، في إشارة إلى الشهور الأربعة التي قضاها الطيب اردوغان في السجن في نهايات القرن الماضي عقابا له لإلقائه قصيدة فسرت على أنها تحقير للدولة ولمبادئها· لكن عندما حدثت الصدمة تأكد لهم أنهم عاشوا وهما كبيرا، وأن خصومهم هم الأحق بالفوز، ولكن حقا هل هم الأحق؟!