تدور تساؤلات حائرة, دائمة, متجددة في أذهان العوام, وبعض الخواص من المتعلمين عن سر هذا الاسم الطويل (الهئية العامة لمحو الأمية وتعليم الكبار) وسر تلك التساؤلات هو هذا التشويش والخلط- الذهنية العامة- بين المفهومين: مفهوم (محو الامية) مفهوم (تعليم الكبار) وحول لغة التربويين في البحوث والمقالات المشفرة التي يسعون بها من ندوة الي ندوة حول هذين المفهومين, او احدهما وهي في أغلب أحوالها لا تعكس الواقع برمته, ولا تخفف شيئا من جهامة الواقع المكفهر, والسؤال المطروح هنا هل هناك التقاء بين المفهومين في خط واحد ؟ إن اغراق التربويين في التشبث بالجداول واقحام التعقيدات الاحصائية في بحوثهم اقحاما عنيفا مستمرا ضاغطا يحول تماما- مع تضاؤل التفسير والتحليل- بين القارئ لبحوثهم فهم المقروء, واخشي ان اسئ الظن اذا قلت ان( بعض) بحوثهم تلك تؤكد احتقار الباحثين التربويين العرب لجموع الناس, او علي الاقل تعاليهم عالي قرائهم مع ان الامانة العلمية تقوم في الاساس علي احترام قيمة القارئ وتنبعث من الرغبة في حمايته من المؤسسات التي تقوم بدور الوصاية عليه. من هنا يتضخم حجم المسكوت عنه في ثقافتنا التربوية بعامة وفيما يتعلق بمفهومي محو الامية وتعليم الكبار بصفة خاصة. وحسب وجهة نظري فان القمع الإحصائي لم يكن العامل الأبرز في تضخم مساحة المسكوت عنه هنا, ولكن تواطؤ (بعض) التربويين غير المعلن باحتقارهم للقارئ, او تعاليهم عليه كان هو العامل الابرز في تضخم مساحة المسكوت عنه. ان الداسات التي اتيح لي الاطلاع عليها حول تعليم الكبار علي مدي عشرين عاما علي الأقل تشير الي ان منطلقات الباحثين التربويين المصريين لقضية تعليم الكبار وابعادها المختلفة لا تكاد تخرج عن منطلقين اثنين هما. النظر الي البحوث المتعلقة بتعليم الكبار علي انها مجال جديد (موضة) للبحث التربوي تشجعه اللجان العلمية وتقام له (الموالد) ويتقترب به ومنه واليه بالاعمال (البحثية) الصالحة... النظر إلي تعليم الكبار باعتباره قضية تربوية (فنية) تصلح التربية بصلاحها وتفسد بفسادها, ومن شأنها اذا ما اتبعت خطواتها بإحسان أن تصلح ما افسدته النظم التعليمية. ويتحصل لنا من وراء ذلك أن هناك عددا من القضايا المسكوت عنها في البحث التربوي المعاصر فيما يتعلق بتعليم الكبار. 1 اغفال البعد التربوي العام. فمعظم- ان لم يكن جميع- البحوث التربوية التي تناولت قضايا تعليم الكبار لم تخرج خارج أسوار المدرسة. وركزت اهتمامها علي النظم التعليمية أو المهارات أو الكفاءة أي انها لم تجاوز المنبع الطبيعي الاول للجودة والاعتماد وهو المنبع الاقتصادي الذي يدعو الي تسليع كل شيء, وعلي هدي من هذه النظرة يصبح الخريج مجرد سلعة يراد تسويقها بكفاءة لدي اصحاب المدارس الخاصة بوصفهم سوق العمل لخريجي التربية. أما التربية بمفهومها العام (التربية الخلقية) و(تغيير السلوك) وتصويب الاختلال القيمي في النفس الانسانية.. وما إلي ذلك فهذا ما لا نجد له صدي في بحوث تعليم الكبار المعاصرة. 2 غياب الأفق السياسي ومعظم ان لم يكن كل البحوث- التربوية المتعلقة بتعليم الكبار أغضت عمدا عن تفسير اي علاقة سلبية تربط النظام التعليمي بالنظام السياسي فالتربويون حين يتحدثون عن المجتمع وعن المشاركة المجتمعية بوصفها معيارا من المعايير الخمسة المقدسة يأتي حديثهم خلوا من أي تحليل علمي جاد لماهية هذا المجتمع الذي يتناولونه فهم يثحدثون عن كيان (مطلق هلامي) لا حدود له كيان... مثالي هش... لانهائي... به كل المزايا, ويخلو من كل العيوب ولو انك راجعت البحوث التربوية في سبعين عاما فيما يتعلق بالجانب السياسي لما لحظت فرقا بين عهد وعهد, ولا بين نظام ونظام, ولا بين فلسفة وفلسفة باستثناء حقبة الستينيات التي اتضحت ايديولوجية الحكم الاشتراكية خلالها, فظهر ذلك واضحا فيما نشرته( صحيفة التربية) وغيرها في تلك الحقبة. أما قبل ذلك وبعد ذلك فلا أثر لفكر تربوي مصري خالص يرتبط بنظام حكم او فلسفة سياسية محددة, ولعل ذلك يرجع الي ان النظام السياسي ظل من عام 1970 حتي التعديلات الدستورية الاخيرة 2007 يظهر غير ما يبطن, فينص دستوره علي توجه اشتراكي, وتصدر قوانينه مكرسة لأسوآ ما في الرأسمالية من رؤي قمعية واستبداد سلطوي, ويكفي في هذا المضمار مقارنة القرارات الوزارية المنظمة لعمل مجالس الأباء والامناء بنظيراتها في الدول التي اقتبس منها نظام عمل تلك المجالس. والبحوث التربوية المتعلقة بتعليم الكبار لا تتعرض لاثر الاستبداد السياسي او التناقض الدستوري/ القانوني, او التشريعات المقيدة للحريات او ما شابه ذلك وكأن كل هذه العوامل لا تؤثر في النظام التعليمي بحال من الاحوال. 3 مهادنة السلطات: إن البحوث التربوية المتعلقة بتعليم الكبار تتجنب مواجهة الواقع التربوي مهادنة للسلطات, فهي لا تتعرض للمستوي المتردي من سوء النتظيم والادارة في بعض المدارس الخاصة ولا تتعرض لسيطرة الطائفية الدينية علي قطاع كبير من التعليم الخاص ولا تتعرض لأوضاع المعلمين المادية المتردية ولا تتعرض لأوضاع شاذة في نظامنا التعليمي بعامة وفي برامج تعليم الكبار بخاصة مثل وضع التربية الوطنية والتربية الدينية والتربية الرياضية والتربية الموسيقية فمن الذي قال ان التربية الدينية تبقي خارج مجموع الدرجات ؟ ولم يستمر هذا الوضع ؟ ولم لا تنشأ بكليات التربية شعب لإعداد معلم متخصص في تعليم الكبار ؟ كل هذه الأسئلة و غيرها عشرات تتجافي عنها البحوث التربوية المعاصرة لحساب السلطات بمستوياتها المتعددة 4 تماهي المفهومين: مازال التماهي قائما بين مفهوم (محو الأمية) ومفهوم (تعليم الكبار), فكأن محو الأمية هو مجرد (فك الخط), والتخلص من الامية الابجدية, وكأن تعليم الكبار هو مجرد (تعلم حرفة), وهذا ما يخالف ما عليه الحال في العالم كله.