ربما كانت واحدة من أبرز العلل في ثقافتنا المعاصرة, أننا نكاد لا نعرف الأفكار إلا من خلال أصحابها, ولا نميز القول إلا بقائليه! فنحن نعاني صعوبة موروثة في التعامل مع الأفكار الفلسفية المجردة بعيدا عن أسماء من نادوا بها أو روجوا لها! وهكذا تظل الفكرة لدينا شخصانية الطابع, فنحن نقبلها ونتحمس لها, أو نرفضها ونقف ضدها; ليس لأنها تبدو لنا صوابا بذاتها في الحالة الأولي, أو لأنها تبدو عكس هذا في الحالة الثانية; وإنما لأن قائلها هو هذا أو ذاك ممن نحب ونبغض, ونحالف ونعادي! فيبقي مدار القبول والرفض معقودا عندنا علي أعيان الرجال. وتفشو هذه العلة أكثر ما تفشو, بين الجماعات الدينية علي تباينها واختلاف مشاربها; فأتباعها هم في الأغلب من ذوي الثقافة الموروثة ميراثا والمحفوظة حفظا, حيث لا مجال لإعمال العقل نقدا وتحليلا! وأنا أتحدث هنا عن عموم التراث; حيث تسود في سائر ميادينه هذه النظرة التي تنطلق من أعيان الرجال, فتحصيهم ثم تصنفهم إلي طبقات, فمن طبقات الفقهاء إلي طبقات النحاة, ومن هؤلاء وأولئك إلي طبقات الشعراء وطبقات المفسرين وطبقات الصوفية; وإذا شئت خليطا من كل هذه الطبقات وغيرها, فعليك بكتب( الوفيات), ولدينا منها ما يربو أحدها علي العشرين مجلدا( الوافي بالوفيات للصفدي مثلا). وعلي هنا أن أشكر الدكتور محمود غزلان عضو مكتب إرشاد الإخوان المسلمين, فهو صاحب الفضل في إثارة هذا التأمل حول ثقافتنا الموروثة, بما عقب به علي بعض ما كتبت; وأعني مقالتي عن ذكري رحيل خالد محمد خالد التي نشرت في هذا المكان بعنوان( خالد بين الخوالد), في الخامس عشر من يونيه الماضي, فإذا بالدكتور غزلان, وبعد أكثر من ستة أسابيع, يتجرد للرد علي ما جاء بالمقالة في الثاني من أغسطس الماضي, بكلمة نشرت تحت عنوان:( خالد محمد خالد بين العلمانية والإسلام). ولعل أول ما يلفت الانتباه في رد الدكتور غزلان, هو أنه خير تجسيد للعلة التي أشرت إليها في بداية المقال, كنت في المقالة المذكورة أتحدث عن فكرة أساسية, هي النظرة النقدية العقلانية إلي التراث, كما تمثلت في كتابات علي عبد الرازق وطه حسين ومن حمل حمل راية هذا النهج بعدهما مثل خالد محمد خالد; فجاء رد الدكتور غزلان ليهرب من الحديث عن الفكرة, إلي سيرة أصاحبها, فراح يقص علينا بأسلوب غير بريء من الغمز في أخلاق راحل كريم لا يملك اليوم أن يرد, تفاصيل الحيل التي اصطنعها لترويج كتابه( من هنا نبدأ)! وهكذا وجدت نفسي وإياه كما قال الشاعر القديم:( سألته: من أبوه؟- فقال داود خالي)! فأنا في واد, وهو في واد آخر; أنا أتحدث من منطلق( تاريخ الأفكار) كما سأوضح بعد قليل, أما هو فمن خلال ما حفظه وتمثله من كتب الرجال والطبقات والوفيات. ولأن الدكتور غزلان يعرف تماما ما يريد, فلم يفته أن يوحي للقارئ بأن أفكار خالد محمد خالد الأولي التي تاب عنها وأناب, إنما هي محصورة في كتاب واحد يتيم, هو( من هنا نبدأ), مقابل كتابين تاليين أعلن فيهما التوبة:( الدولة في الإسلام) وسيرته:( قصتي مع الحياة), وكأن المعيار الكمي سيحسم الأمر, فما يرد في كتابين أحري بالتصديق مما يرد في كتاب واحد! وبغض النظر عن فساد هذا المعيار, لأن الحقيقة دائما موجزة; فإن الدكتور لم يكن أمينا وهو يصمت عن جملة وافرة من كتب تنويرية تركها لنا خالد محمد خالد, وكل كتاب منها لا يقل أهمية في روحه النقدية ونهجه العقلاني عن كتابه الأول:( من هنا نبدأ), وأذكر الدكتور هنا ببعض ما تناساه:( الدين في خدمة الشعب- مواطنون لا رعايا- الديمقراطية أبدا- هذا أو الطوفان- لكي لا تحرثوا في البحر) وغيرها مما يعرفه الدكتور حق العرفان! أراد الدكتور أن يخرج بنا من( تاريخ الأفكار) التي لا عهد له بها, إلي سير الرجال التي يألفها, ولكنها لم يتحر الدقة في مجاله ولم يتوخ الأمانة كما رأينا, بل إنه لم يذكر لنا كيف تراجع خالد محمد خالد عن رؤاه العقلانية! وما إذا كان قد تراجع عن آرائه كلها أم عن رأيه في الدولة الدينية فحسب! ولم يتطرق إلي الظروف السياسية والاجتماعية التي أدت إلي هذا التراجع! يتجاهل الدكتور ما يحرجه أمام قارئه, وربما أمام نفسه! كما يتجاهل الظروف السياسية القاهرة التي أدت بجيل من اليساريين, خاصة بعد هزيمة1967, ثم زيارة السادات لإسرائيل, ثم الغزو السوفييتي لأفغانستان, وغيرها من النكبات التي حاقت بالعالم العربي والإسلامي; إلي الإحباط واليأس, فتخلوا عن طريق الخلاص العلمي والعقلاني, ليرتموا في أحضان الخلاص الديني! فليس هذا دليلا علي فساد الرؤية العقلانية المستندة إلي العلم, بقدر ما هو دليل علي قنوطهم وخيبة أملهم إزاء ظروف قاهرة فرضتها الأحداث السياسية والظروف الضاغطة. ونحن نعلم من التاريخ أن مثل هذه الظروف قد تحمل الإنسان علي أن يتنكر للحقيقة, ألم يتنكر جاليليو في مطلع العصور الحديثة للحقائق العلمية التي توصل إليها, تحت وطأة ظروف المحاكمة الضاغطة؟ وهل غير هذا التنكر في شيء من الحقيقة ذاتها؟ ويوسع الدكتور غزلان دائرة الحديث لتشمل الشاعر الرائد أحمد عبد المعطي حجازي, وهو يصفنا معا بأننا من( إخوانه) العلمانيين! وهي الأخوة الساخرة التي يستخدمها غلاة المتعصبين في خطابهم إلي( إخوانهم المسيحيين)! فأسلوب الغمز عند الدكتور لا يختفي إلا ليظهر من جديد! فهو يعلم الدلالة التجديفية لكلمة( علماني) عند من يجهلون! ولو راجع مقالتي لما وجد كلمة واحدة عن( العلمانية) ومشتقاتها, فلم يكن المقام يستدعيها, وإنما تحدثت عن التنوير والرؤية العقلانية النقدية للتراث; ولو اتبع الدكتور ضميره, لقال( إخواننا العقلانيون)! ولكن كيف سيرضي لنفسه أن يكون في معسكر غير العقلانيين! أما لو راجع مقالة أحمد عبد المعطي حجازي, فقد كان بوسعه لو اتبع ضميره أيضا, أن يميز بين الحقائق التاريخية الثابتة, وبين وجهات النظر المتغيرة حولها, وللمستشار طارق البشري أن يغير وجهة نظره في الإخوان, ولكن يبقي وقوف الإخوان مع الملكية ضد الشعب, ومع حكومة صدقي ضد الدستور, من الحقائق التاريخية الثابتة التي لا جدال فيها. وبمنظور ثقافة الطبقات والوفيات, يمكن أن نؤرخ لحركة( الإخوان المسلمين) فنقف عند أهم أعلامها ورموزها منذ تأسيسها علي يد حسن البنا عام1928 إلي اليوم, ولنا في هذه الحالة أن نتتبع سيرة هؤلاء الأعلام لنلم بما ثبتوا عليه من آراء وما تخلوا عنه,; ولكن فهمنا الأعمق لهذه الحركة لن يكتمل إلا إذا نظرنا إليها من وجهة نظر علم( تاريخ الأفكار), وهو علم وليد نشأ في النصف الأول من القرن العشرين وتبلور علي يد الفيلسوف الأمريكي آرثر لوفجوي ومن بعده أشعيا برلين وغيرهما, ولا تخلو جامعة غربية من تدريسه اليوم في فرع الإنسانيات, بينما لا توجد كلية آداب واحدة لدينا, تعيره أدني اهتمام! المزيد من مقالات حسن طلب