بينما أسعار الأسهم تتهاوي في البورصات الأمريكية خلال الأسبوع الماضي كانت قنوات التليفزيون الإقتصادية المتخصصة عالميا تركز علي تحليل العلاقة بين الإنفعالات العصبية الحادة والأزمات القلبية وتنصح متابعي البورصة بالهدوء والتحكم في أعصابهم. ولكن كيف يستطيعون ذلك وهم يرون مؤشر التداول ينحدر بقوة والأسهم تفقد نحو تريليون دولار من قيمتها في يوم واحد, بعد أن قامت مؤسسة ستاندرد أند بورز بتخفيض درجة تقييم الإقتصاد الأمريكي للمرة الأولي منذ عام.1917 وبينما كان يتصور المحللون إمكانية حدوث توابع لزلزال الأزمة المالية العالمية التي حدثت في عام2008, فإذا بالتوابع تصير أشد عنفا من الزلزال نفسه, وبدلا من إنهيار المؤسسات المالية الكبري بعد سقوط بنك ليمان براذرز الأمريكي فإذا بالأزمة تحيط بحكومات الدول الكبري وتهدد ليس فقط بسقوط جديد للنظام المالي العالمي ولكن إنهيار كبير في الإقتصاد العالمي لا يستطيع أحد حتي الآن مجرد تصور حجمه وآثاره علي مصير السكان حول العالم. فمع شدة الأزمة المالية العالمية السابقة سعت الدول الكبري إلي التعاون والتنسيق للتصدي لهذه الأزمة حتي لا تتفاقم, وإتفقت من خلال تجمعات مثل مجموعة دول العشرين( تمثل دولها نحو85% من الإقتصاد العالمي) علي إتباع سياسات مالية ونقدية توسعية لمواجهة أزمة السيولة العالمية. وقامت الدول بإلإنفاق علي حزم مالية إضافية لزيادة الطلب وتوفير السيولة, وقامت بتخفيض أسعار الفائدة إلي أقل مستوياتها, ونجحت بالفعل في الخروج سريعا من الركود الإقتصادي والحد من آثار الأزمة التي طالت فرص العمل ومستويات الدخول في أغلب دول العالم. وكانت مغامرة الحكومات تقوم علي أن هذه الزيادة الإستثنائية في الإنفاق سوف يتم تعويضها عند عودة النشاط الإقتصادي وزيادة موارد الدولة من الضرائب. إلا أن الدول بدأت تكتشف مؤخرا أنه بعد إنتهاء تدخلها الإستثنائي من خلال الحزم المالية فإن معدلات النمو لم ترجع بالمعدلات السريعة المتوقعة, ووجدت أن ما تبقي لها هو رصيد ضخم من الديون لا تعرف كيفية التخلص منه في المستقبل. وفيما وصل العجز إلي نحو90% من الناتج المحلي في الولاياتالمتحدة فإن هذه النسبة بلغت في دول أوروبية أخري مثل إيطاليا نحو120% وفي اليونان نحو160%. وكان علي إدارة الولاياتالمتحدة أن تطلب من الكونجرس الموافقة علي رفع سقف حد الديون المسموح لها من14 إلي نحو16.5 تريليون دولار حتي لا تتخلف عن سداد جزء من مديونيتها في الوقت المحدد. إلا أن المواجهة العنيدة بين الإدارة الأمريكية من الديمقراطيون من ناحية وبين الكونجرس الذي يسيطر عليه الجمهوريين من ناحية أخري, وضعف الإتفاق الذي تم التوصل إليه ترك رواسب شديدة لدي الأسواق ولم يمنع من تخفيض درجة التقييم للإقتصاد الأمريكي. فالصراع الأيديولوجي المعروف بين الديمقراطيين( يسعون إلي تدعيم دور الدولة في الإقتصاد ويرون ضرورة فرض مزيد من الضرائب علي الأغنياء), وبين الجمهوريين( يرون أهمية تقليص دور الدولة والإنفاق الحكومي الضخم بما في ذلك نظام التأمين الصحي الباهظ, ورفض أي محاولة لفرض مزيد من الضرائب تؤثر علي المنافسة والتشغيل) لم يكن هو المشكلة الأساسية, ولكن خلفه كان الصراع السياسي بين الجانبين.. كلا منهما يحاول التخلص من الأخر وزيادة فرصه في الإنتخابات الرئاسية القادمة في عام.2012 وقد فشل الطرفان في هذه المواجهة التي تضرر منها الإقتصاد الأمريكي بل والإقتصاد العالمي وبالطبع المواطن الأمريكي بشكل مؤثر. ولم يستطع الطرفان الإتفاق إلا علي ربط هذه الزيادة بتخفيض2.1 تريليونات دولار فقط خلال العقد القادم من( وليس4-5 تريليون كما كانت تأمل الأسواق), وذلك من خلال تقليص النفقات العسكرية والتأمين الصحي, دون التعرض للضرائب ومجالات الإنفاق الأخري, وتم تأجيل باقي الحل إلي مواجهة أخري, وهو ما أغضب وأضعف ثقة الأسواق في إمكانية التوصل إلي حل يعيد الإقتصاد الأمريكي إلي الطريق السليم. أما بالنسبة لأوروبا فإن أزمة الديون تعتبر أكثر عمقا في دول جنوب منطقة اليورو. وفي مواجهة الأداء الإقتصادي القوي لألمانيا وفرنسا وهولندا فإن الحلول أمام الدول الأصغر مثل إيطاليا وأسبانيا وأيرلندا والبرتغال واليونان تكاد تكون محدودة, وليس أمامها إلا القيام بإجراءات تقشفية لتخفيض العجز الحكومي حتي تستطيع الإقتراض من الأسواق في المستقبل بتكلفة معقولة. وسوف يكون هذا علي حساب إنخفاض مستوي معيشة المواطنين في هذه الدول وتأجيل عودة معدلات النمو المرتفعة, وبالتالي إستمرار إرتفاع معدلات البطالة في أوروبا. إلا أنه مثلها مثل الولاياتالمتحدة كان ضعف الإدارة السياسية في الإتحاد الأوروبي وترددها وبطئها والإشارات والتصريحات المتضاربة من القيادات الأوروبية كات سببا رئيسيا في تفاقم الأزمة, وفي ردود الفعل العنيفة من الأسواق المالية. وتزداد خطورة أزمة الديون الأوروبية نتيجة تأثيرها المباشر علي المؤسسات المالية الكبري في أوروبا والولاياتالمتحدة التي تستحوذ علي مبالغ ضخمة من هذه الديون في محافظها المالية, وأي أزمة في إحدي الدول سوف تؤدي إلي إنهيار ليس فقط هذه الدولة ولكن النظام المالي العالمي مرة أخري وبشكل أكثر حدة, ودون وجود قدرة للحل مثل الأزمة السابقة نتيجة عدم وجود مساحة مالية تسمح للدول الكبري بالتدخل. وعلي الرغم من أن الإنهيار الإقتصادي والمالي العالمي أصبح أقرب من أي وقت مضي إلا أن فرص عبور هذه الأزمة لا تزال قائمة. وقد قامت الدول بالفعل ببعض التحرك خلال الأسبوع الماضي, ومنها إعلان بنك الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي عن إستمراره في إتباع سياسة نقدية توسعية, حيث سيبقي أسعار الفائدة عند مستوياتها المنخفضة الحالية علي الأقل لمدة عامين حتي منتصف عام2013, وهو إجراء يطمئن الأسواق حتي لو كان علي حساب إنخفاض قيمة الدولار وإمكانية إرتفاع معدلات التضخم, كا يتوقع أن يطبق المرحلة الثالثة من التدخل النقدي الكمي من خلال شراء الديون الأمريكية وهو شكل من أشكال طباعة النقود. وفي نفس الوقت فمن غير المتوقع أن تقوم الصين التي تستحوذ علي30% من ديون الولاياتالمتحدة ببيع الأوراق المالية الأمريكية لأنها ستكون أول المتضررين, وهو نفس الوضع بالنسبة للدول الأخري التي تحقق فائض في ميزان مدفوعاتها. كما قام البنك المركزي الأوروبي وبنوك مركزية أخري خلال الأسبوع الماضي بالتدخل في الأسواق وشراء الديون المشكوك فيها والتي تتخوف منها الأسواق, في محاولة لوقف كرة الثلج وتقليل فرص إنهيار النظام المالي. وعلي جانب آخر تستمر الدول الأوروبية في تبني إجراءات تقشفية لإستعادة ثقة الأسواق بأنها جادة في الإنضباط المالي, بما في ذلك فرنسا التي أعلنت عن قيامها بإجراءات تقشفية جديدة ستعلن عنها في الأسبوع الأخير من هذا الشهر. ويري بعض المحللين أن الإقتصاد الأمريكي لا يزال قويا ويتمتع بالديناميكية والإبتكار والقدرة علي التقدم, كما أنه علي الرغم من تباين أداء الإقتصادات الأوروبية فإنها لا تزال من الأكثر تقدما, وإنه حتي لو إستغرق تصحيح الأوضاع وقتا فإنها ستتحسن بالضرورة. ولكن تبقي الإرادة والإدارة السياسية في هذه الدول وإمكانية إرتفاعها لمستوي الحدث كعنصر رئيسي لتفادي إنهيار إقتصادي عالمي, ولتلاشي فوضي سياسية وإجتماعية عالمية لا يستطيع أحد تخيل حجمها, وقد بدت ملامحها تظهر في بعض الدول الكبري.