يتمتع شهر رمضان الكريم بسمة لا يضاهيها شئ في أي شهر من أزمنة الله الأخري, ففيه يتنفس الناس روحا سماوية خاصة, أهم ما فيها من وجهة نظري, أنها تشمل الناس جميعا كل حسب طاقته ورغبته وقوته الروحية, ففيه الخير لطفل صغير يتشبه بالكبار, فيصوم صوم (الفار) أول ما يجوع يجري علي الدار!, وأيضا للكبار الذين يحاولون التقرب إلي الله, بمزيد من العبادات, وبذل الخير, وتجنب الشر في القول والفعل, والحياء من المشاعر السلبية التي تبعده داخليا عن السمو الالهي, وهناك من يصل إلي حالة من الوعي المتسامي والوجود شبه الإلهي, والتوحد مع الكون, وتجاوز الذات إلي رؤية شفافة للوجود, وذروة عالية من الحب الالهي, يدرك بها معاني جديدة للقيم العليا من الجمال والتفرد والرحمة والصدق والعدل والحرية والعطف والمودة والسكينة والسعادة والحق, فهي قمة الوجود الانساني, لا يمكن وصفها, ولكن يقول من أدركها: من ذاق عرف! ويشهد الشهر الكريم في عامنا هذا أخطر فتنة شهدها العالم الاسلامي علي مر تاريخه, في الانتفاضات العربية التي أفرزها المحيط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المتخلف, لحكام اعماهم الغرور الأحمق, والركون إلي خداع القوة, وضمانة الأجنبي الطامع في تراجعنا, لاستمرار تقدمه وتفوقه علينا, فقد نجح أخيرا الاستعمار في الايقاع بين الحكام والشعوب العربية, فقد أملي للحكام حبال التشجيع والمساندة في سياسات داروينية, تدهس الضعفاء وتطفئ الأمل في المستقبل, وكان أول الهادمين لعروشهم بعد ثورة الناس علي اطماعهم, التي تمادت حتي وصلت لخلق ملك عضوض, فقل الطمع ما جمع! كانت المؤامرات تحاك في الخفاء, أما الآن فتنفذ المؤامرات نهارا جهارا بتقسيم الدول العربية بدعوي حقوق الاقليات أو محاربة أنظمة الحكم المستبدة, وهي أمور تحل بالحوار والتعاون البناء بين أطياف النسيج الاجتماعي في المجتمعات العربية, التي بها ما يجمعها أكثر مما يفرقها من ايديولوجيات مذهبية أو اثنية تجاوزها العصر والزمن والتاريخ, لكن المصالح الاستعمارية لا تنفك تستخدم الايديولوجيات المغلقة لتخريب المجتمعات, لتصبح أكثر هشاشة وطواعية, ولا تستحي من استخدام تعبيرات فخمة من حقوق الانسان, لتغذية الانقسامات, وتأليب الأقليات, ولا أدري لماذا يضنون علي أنفسهم بمثل هذه المصطلحات لتقسيم مجتمعاتهم ودولهم! والانتفاضات العربية رغم شرعيتها الثورية في خلع الأنظمة المستبدة التي جعلت من الصعب الحفاظ علي الاستقرار الوطني تحت رايتها, إلا أن مبررات اشتعالها بعد خلع بعضها كما حدث في مصر وتونس واستجابة الآخرين لكل دعوات الاصلاح والحوار مثل سوريا وليبيا واليمن والمغرب والأردن, يشير إلي خبث المؤامرات التي تبقي علي الاضطرابات مستمرة, فتمنع افراز آليات جديدة للاستمرار والنهوض واعادة البناء الوطني اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا, وهو ما يتطلب الدراسة والتكاتف والمشاركة الشعبية البناءة, للحفاظ علي مكتسبات الثورة من حرية وعدالة اجتماعية, وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل الفوضي والمغالاة والمزايدة التي تلهب الحماس الزائد, مما سيولد إحباطا حارقا بعد الوصول إلي اللاشئ!. وعلي غير العادة فان التيارات العلمانية والحركات الشبابية الليبرالية أو المدنية كما تسمي نفسها هي التي تحرض علي الفوضي والتشدد في المطالب, دون النظر في معقوليتها وحقوقيتها وتغالي في تفريع المسائل وتوليدها, وحرق المراحل المنطقية للتنفيذ, وهو ما كان الاتهام الجاهز للحركات الاسلامية التي تطور بعضها وقام بمراجعات عقلانية مهمة, وذلك يعيد للذاكرة محنة من أغرب المحن التاريخية في المسار الحضاري للتاريخ الاسلامي, وهي (محنة خلق القرآن), فهي نشأت في عهد لا ينتظر منه مثل هذه المحنة الرهيبة, وهو عهد الخليفة (المأمون) الذي نال سمعة عقلانية, وانفتاح علي العالم والحضارات, ولم ينتظر منه أن ينغلق علي نفسه ويرفض طوائف اسلامية وافكارا لفريق من شعبه, ومن هنا دائما ما تأتي المحن بسبب عقدة التفوق وامتلاك الحقيقة وفرضها علي الآخرين, وعلي الباحث المدقق أن يتتبع الخيوط ليصل إلي حقيقة المصالح والأطماع الدنيوية التي تحرك مثل هذه المحن الفكرية, للعب علي غرائز الناس, وتضليل عقولهم, وغالبا ما تنتهي إلي مصالح مثل فرض ملك عضوض في الماضي, أو تمويل خارجي ينفذ أجندات أجنبية ومصالح خارجية في الحاضر! محنة خلق القرآن لم تكن محنة, لولا فرضها بالقوة علي الآخرين, ففكرة (خلق القرآن) فكرة تبناها (المعتزلة) الذين اعتزلوا الناس, ولم يعزلهم أحدا, بل فرضوا العزلة علي أنفسهم تشددا في تبني أفكارهم العقلانية, التي رأوا أنها فوق مستوي الناس, واعتبروا القرآن مخلوقا حديثا وليس كلام الله, فأزالوا عنه التقديس باعتباره كلاما قابلا للتأويل والتحديث حسب مقتضيات العقل, ورأي فريق آخر من العلماء أن في ذلك مزايدة في الفكر, ومسا بالمقدسات, واعتبروا أن القرآن كلام الله لا يجوز الاجتهاد فيه, مما خلق جدلا لاهوتيا, مازال مستمرا, في كيفية قراءة النص الديني, ويري أبرز قضاتهم عبدالجبار أن القرآن يتقدم بعضه علي بعض وما هذا سبيله لا يجوز ان يكون قديما, فالقديم هو مالا يتقدم عليه غيره, ولم يكن بضار بالأمة الاسلامية المنفتحة مثل هذه التفريعات العقلية, التي أسست لعلم الكلام في قضايا العقيدة, لولا أنهم كفروا من خالفهم في الرأي, فثوريتهم الفكرية في قراءة النص, تحولت من فكر فلسفي منفتح يقبل البناء عليه, إلي فكر عدواني لا يمت للعقل أو الايمان بصله! المحنة لم تكن في المعتزلة الذين رفضوا المجتمع الفاسد, وانغلقوا علي فكرهم, وبعضهم رفض العالم والسلطة المركزية, وتفرغوا للعبادة المتصوفة, وبعضهم اشترك في النظام السياسي القائم لاصلاحه من داخله, فكل هؤلاء لم يرفضهم المجتمع الاسلامي المتسامح في أصله, ولكن المحنة أن (المأمون) باعتباره الخليفة طالب بنشر مثل هذا الفكر, وعزل أي قاض لا يؤمن به, ووصل الأمر إلي الفصل من الوظيفة والسجن والجلد, وأشهر من عذب في هذه القضية الامام( أحمد بن حنبل) الذي رفض الخوض في لزوم ما لا يلزم! لم تغب عن الاذهان الدوافع الكامنة لتبني (المأمون) هذا الفكر وفرضه بهدف الاستغلال السياسي للمنهج العقلي, لتبرير الملك العضوض الوراثي الدخيل علي الفكر الاسلامي, فمن خلال التقدم الفكري للمعتزلة تمكن (المأمون) من السيطرة علي السلطة الدينية القانونية والسلطة السياسية معا فحتي العقل والعقلانيين لم ينجوا من الاستغلال السياسي! الاستغلال السياسي للفكر الديني أو العلماني أخطر ما يواجهنا الآن, عندما يتحول أي منهما إلي فكر مغلق عدواني فوضوي, يتحول إلي أداة في أيدي أصحاب المصالح من السلطة السياسية أو الأطماع الخارجية, فليس بعيدا عن الذاكرة ما جرته من خراب شركات توظيف الأموال, التي تم استغلال رجال الدين لترويجها, للقضاء علي المكتسبات الاشتراكية التي تصب في صالح عامة الشعب, والتأسيس للرأسمالية المتوحشة, التي أدت إلي الانتفاضة المصرية الأخيرة, وليس غائبا عن الأعين استغلال الحركات العلمانية للانتفاضة, لخلق محنة جديدة من الثورة الدائمة بالتمويل الخارجي! شهر رمضان شهر الرحمة والخير, نستطيع أن نجعله وقفة عند مفترق طرق, لاعادة بناء الكيان الوطني علي أسس عقلانية عصرية متطورة, تحافظ علي الهوية الحضارية الاسلامية كجزء من العالم يعي طبيعة العصر, وابعاد الصراع الاستراتيجي لتحقيق المصالح, والمساهمة في تطوير العالم بما لنا من تاريخ مليء بالنجاحات والاخفاقات, وتشكيل عالم تعيش فيه الشعوب المنتجة جنبا إلي جنب, دون صواريخ الناتو الرابحة دوما بفضل مهارة الاستغلال السياسي. المزيد من مقالات وفاء محمود