المشهد الآن أن الثورة قد حققت احد أهم أهدافها في محاكمة الرئيس الذي تمكنت من خلعه بعد 18 يوما من التظاهر الحضاري الذي ابهر العالم, وبدا الفرعون داخل القفص الحديدي مع أبنائه وأركان حكمه تفسيرا حيا للحكمة الإلهية في إطالة عمره حتي يكون آية علي عدالة السماء يراها ويسمعها العالم كله. اللحظة ليست للشماتة والانتقام بقدر ما هي للتسليم بعدالة وقوة ونزاهة القضاء المصري, ومن ثم التركيز علي ما يجب أن تفعله القوي الوطنية في الفترة المقبلة حتي لا تتحول الثورة الي مجرد مغانم تتقطع من اجلها أوصال الوطن وتضيع هيبة الدولة وتنهار المؤسسات الوطنية في سبيل حصول كل فصيل علي غنيمته. المطلوب الآن أن نتجه مباشرة الي تنفيذ ما تم التوافق عليه من خلال استفتاء مارس العظيم بالتحضير للانتخابات البرلمانية ومن بعدها الرئاسية بشرط اتخاذ كل ما يلزم من ضمانات أن يكون نظام الدولة الوليد هو نظام ديمقراطي مدني يسمح بتداول السلطة ولا يعطي أية فرصة لأي فصيل أن ينفرد بالحكم بمجرد وصوله الي السلطة من خلال انتخابات حرة. ببساطة لا نريد ان تكون الديمقراطية الوليدة التي ننتظرها بفارغ الصبر ونتوق إليها, والتي من أجلها قامت الثورة, مجرد وسيلة الي مرحلة جديدة من الديكتاتورية.. وفي هذا الصدد لااشعر بأي غضاضة أو قلق من أن يتولي الإسلاميون السلطة في المرحلة الأولي من البناء الديمقراطي الجديد اذا كانت الصناديق سوف تثبت أنهم الأكثر تنظيما وقدرة علي الحشد, وإذا صح أن لهم الغالبية العظمي من الأصوات رغم قناعتي الشخصية بأن القدرة علي التنظيم فقط هو الذي يعطي هذا الانطباع بالكثرة العددية, وأكاد اجزم انه في يوم جمعة الإرادة الأخيرة كانت التعليمات المشددة قد صدرت بأن لا يكون أحدا من السلفيين متواجدا في منزله, بل ان يخرج الجميع الي الميدان استعراضا للقوة.. بمعني أن هذا العدد الذي شاهدناه في الميدان والذي لا يتجاوز المليونين هم كل سلفيو مصر, مع العلم أن سكان مصر 85 مليون مواطن. الذي يجب أن نركز عليه هو ضرورة الاطمئنان الي نموذج لا يسمح لفصيل ان ينقض علي السلطة ويحتكرها باسم الدين وباسم الحق الالهي.. وان تكون الدولة المدنية هي أساس اي دستور يتم الإعداد له سواء كانت هناك نصوصا فوق دستورية أو كان هناك توافقا حول مفهوم الدولة المدنية وإجماع علي استحالة الوصول بالدولة الي سلطة الحكم الالهي الذي لا يقدر بشر أيا تكون مرتبته الأخلاقية والإيمانية علي القيام بها, خاصة وان نموذج الحكم الديني بمعني الخلافة الإسلامية لم يستمر سوي ثلاثون عاما منذ بداية دولة الإسلام في المدينةالمنورة, بعدها أصبح الحكم ملك عضاد كما أنبئنا الرسول الكريم.. اي أن الحكم بعد الخلفاء الراشدين أصبح في ذمة السياسة والقوة والمناورات والتحالفات والمخادعات بكل يحمل ذلك من معان. أقصي ما يمكن أن نتفق عليه الآن هو أن الدولة المصرية الديمقراطية الحديثة هي مع دولة مدنية بمرجعية أخلاقية إسلامية لا تسمح بنصوص قانونية تتعارض أو تتصادم مبادئ إسلامية راسخة. وعودة الي محاكمة الفرعون التي بنيت فقط علي آخر ما فعله في الشعب المصري طوال الثمانية عشرة يوما للثورة الشعبية من قتل وتآمر علي شباب الثورة, فأقول انه ليست هذه هي الاتهامات التي كان يجب أن يحاكم عليها الرئيس المخلوع.. المحاكمة الحقيقية لابد أن تكون علي أساس الاتهامات بالفساد السياسي الذي أرسي مبارك قواعده وأطال في بنيانه طوال ثلاثون عاما الي أن وصل في آخر عشرة أعوام الي الاستخفاف بعقول المصريين والاستهانة بمقدرات ومقومات الدولة من خلال إعداد المسرح لتوريث الحكم لنجله الشاب.. وأعود الي ما سبق أن أكدت عليه في الثاني من مايو الماضي عندما كتبت انه من المهم أن نحاسب هؤلاء الذين أفسدوا الرئيس السابق وساعدوه علي أن يتحول الي ديكتاتور جبار لا يهمه إلا تكريس نظام حكمه بل وتحويل النظام الي النموذج الملكي بفرض ابنه رئيسا من بعده, مع الايمان التام بأن المشكلة لم تكن ابدا في ما إذا كان من حق الشاب جمال مبارك كمواطن مصري في الترشح لرئاسة الجمهورية أم لا.. ولكنها كانت في الكيفية التي كانت السيناريوهات تصاغ في ليل بمؤامرات دنيئة لتحقيق هذا الهدف وإقصاء كل من يمثل معارضة أو منافسة حقيقية, ووضع عرائس متحركة علي أنها قوي منافسة.!! ونعود الي ميدان التحرير.. والشاهد أن الميدان وحتي الجمعة قبل الماضية كان قد وقع في قبضة المنتفعين بالثورة, والبلطجية والمأجورين وان أحدا من الثوار الحقيقيين الذين فجروا ثورة الشباب لم يكن ليشعر بالفخر علي الإطلاق أن يكون متواجدا فيه مع هذه القوي الجديدة التي تتهافت الآن علي تقطيع الوطن. الثوار الحقيقيون هم الذين يحترمون أنفسهم الآن بأن يتركوا الميدان للبلطجية حتي يسهل التعرف عليهم والتعامل معهم بكل القسوة والشدة وحتي يكون ذلك رسالة ومقدمة لإنهاء كل صور البلطجة والفوضي قبل اي انتخابات حتي لا تتحول الشوارع والطرقات الي انهار من الدم. المزيد من مقالات محمد السعدنى