كان كالسيف قاطعا, وسريع الحسم, يقضي في لحظة, وكأن الرأي قد كان جاها ومعدا. الذكاء الرهيب يحدوه, قراراته المخيفة تتري في حدة, وهو لايترك شيئا معلقا, فغد إذ يجيء يأتي. وقد باعد في خطوه وجاوز جدا. لايبالي بما يقول ولاة الأمر عنه, يكفيه سيف علي المفاسد مسلول, وعزم مباغت ليس يهدا. كان تكوينه البعيد شديد العمق, عمق استنارة ورؤي كبري, نماه في مراس مع الحياة, وإنجاز مع الصحافة مشهود, وعشق اللغات في نبعها الأصفي, وفي صوغ مايريد ومايحكي, وعقل يقتات ثورية الفكر, وأنواره تضيء علي الصحب, تشع اليقين رأيا وحدا. كسبته إذاعة الزمن الخالي, وبنائين من جيله عظاما وروادا وآباء فنون وعدة ونظام, شيدوا مجدهم جميعا علي غير مثال, حين أعطوا لعصرهم وجهه الصادق البث, وشادوا له تراثا ومجدا. كلهم, كلهم أضاؤوا, وشعوا في مجرات سؤدد, واقتحام, مثلما تسطع الكواكب والشهب, وتهدي السارين, سعيا وكدا. بينهم كان يصنع الخبر الأول, يبني مجد الإذاعة في الأخبار, يعلي من شأنها, مستعدا جاهزا للصدام إن حاول السادة فرضا للذي لايطيق, أو زيفوا جدارا وسدا. عندها تصبح الكرامة رأيا, وموقفا يدعم الرأي, ويضحي في رأيه مستبدا. لايبالي أذي العواقب إن حل, ولايرضي لهم حبالا وكيدا, لا ولا يستسيغ قبضا وشدا. ساطع في جبينه ألق العلم, مضيفا إليه وعيا مشاكسا, ولسانا نافذ القول والعبارة, يردي إن رام قتلا, ويبني إن شاء ظلا, ويستعصي علي الصمت, ويمضي في زهوره يتحدي. لم نكن نحن بالأليفين, لكني تجنبته, وصرت بعيدا عنه, في فورة من العناد, كلانا برج جدي, وطريقي أقصيته, لايؤدي يوما إليه, ولم أدر بأني قاطعت من يصبح يوما جد حفيداتي, تجاوزت وقتها في عداء, وأني أسرفت في اللوم جدا. زمن جاء بعد ماترك الجاه, بعيدا عن سلطة الأخذ والرد, ولم يبق غير عطر له فاح, وذكر لدوره كل يوم أرادوا الحديث عن هيبة كانت, وعن قدرة الإرادة والحزم, وعن قيمة الكرامة والزهد, وتاريخه الذي صاغه من إباء, لايبالي ولايهادن في وقت طغي العسف وجار الكبار بأسا وعدوانا, وصار الحصيف من ينأي لكي يحفظ نفسا له وينقذ جلدا. ذات يوم, ونحن نجلس حوليه بعيدا في قلب موسكو وكنا كتيبة من شباب للإذاعات, كانت عيناه يبرق دمع فيهما, والتماع الزهو الذي كان يحياه بما قد أضاف فينا, والكلام الحبيس يفلت منه, وهو يخشي علي الإذاعة من يوم يجيء لايستطيع الناس فيه في مرة أن يقولوا للذي سوف يفسد: كلا, قد تجاوزت, فالزم الآن حدا! صورة الجد فيه لاتفارق عيني, لأن فيه الحديد, واختفت الحدة, صار بين الحفيدتين صفاء النهر يسري وداعة ونعومة. صارتا شغله الأنيس, ومأواه, وسعيا ينسيه ماتفعل الأوجاع فيه, مستعيدا صفاءه الرائع السمت, مذيبا أحزانه وهمومه. حين ناءت ساقاه بالحمل, لم ييأس, مشاركا في كثير, ثم فاضت ملء السطور كتابات له وتواريخ لعمر قد عاشه في البدايات, وعمر قضاه يرعي الكثيرين, وفكر يشع نورا لمن بين يديه يصوغ الأجيال بالوعي والحكمة, حتي يبث فيهم مرامه. حين زادت أعباء ساقيه, كان الداء يسري, فلم يبق سوي أن يطل من شرفة البيت حبيسا, فلا يستسيغ من بعد شيئا, لا, ولا يرضي طعاما ولاشرابا, فلا العيش اشتهاء, ولاصارت الحياة كما يرضي, ولا القادم المرجي أمامه! راحلا قبل موعد لرحيل, تاركا بيننا وديعته الكبري, تباريه انضباطا وتستعيد نظامه, حين ربت حفيديته علي ما كان يهوي, مثالا وقدوة وصرامة. وهي من بعده, تروم الذي رام, وترعي وجوده الحي فينا, وتمضي في طريق قد كان فيه متوجا, قيمة العدل لديه شريعة وعلامة. وبكاه الجميع, أشرف من كان يدا, واستقامة, وكرامة. في زمان مضي, هو الزمن الأبقي, فمن ذا يجاريه, ومن ذا يقوم يوما مقامه!؟ المزيد من مقالات فاروق شوشة