عندما طلب الأستاذ هيكل من محمد صلاح الدين بهجت حلمي جاهين أن ينتقل للأهرام رساما للكاريكاتير, بدا الأمر مثل لقاء السحاب بين شاب معجون بالموهبة والسخرية والشجن وبين جريدة عريقة ملأت الدنيا وشغلت الناس ولم يعد ينقصها سوي أنامل ذهبية في رسم مواجع الناس وأفكار طازجة في فن صناعة الضحك! كان ذلك في1962 حيث لم يكن الشاب البدين, الانطوائي, قليل الكلام, صلاح جاهين تجاوز الثانية والثلاثين من العمر, وهو نفس العام الذي انفصل فيه عن زوجته سوسن زكي' رسامة صحفية بدار الهلال' بعد أن أنجب منها' بهاء' و' أمينة'. قبل ذلك التاريخ, لم يكن الكاريكاتير أحد الأسلحة الضاربة لصحيفة الأهرام, ورغم أن الجريدة الأكثر شهرة ومصداقية وانتشارا من المحيط إلي الخليج انفردت بشخصية متميزة في فنون الإخراج الصحفي والسمت العام للصفحات من الأولي إلي الأخيرة, إلا أن رسومات جاهين حملت إضافة مهمة بمذاقها المصري اللاذع وسخريتها الحارة ومفارقاتها الضاحكة. بخطوط سريعة بسيطة, وكلمات قليلة استطاع جاهين أن يؤسس لمدرسة جديدة في فن الكاريكاتير تخلصت من المؤثرات الأرمنية واليونانية والتركية التي لازمت بدايات هذا الفن في مصر منذ آواخر القرن التاسع عشر, وأعطته هويته المصرية الخالصة سواء في الشكل أو المضمون! والمدهش أنه تناول قضايا في السبعينيات والثمانينيات مازالت تعيش بيننا حتي الآن, ولو نشرت هذه الرسومات اليوم لما أحسست بفرق الزمن فيها, فمثلا رسم كاريكاتيرا يظهر فيه مراقب وطالب في لجنة امتحان, والطالب يسأل المدرس: يا بيه يا بيه يا بيه..! عايز إيه؟ ' ميدو' بالألف ولا بالهه؟ ليه؟ عايز أكتب أسمي علي ورقة الإجابة. وهناك رعب الثانوية العامة الذي يبدو أن الوزارة تحاول علاجه منذ السبعينيات وحتي الآن بلا جدوي.. إذ رسم صلاح جاهين صديقين يمران أمام دار سينما وكتب عليها' البعبع.. فيلم الموسم..' ودار التعليق منهما كالتالي: ده مش فيلم رعب يا عبيط.. ده فيلم تسجيلي عن امتحان الثانوية العامة. وفي رسم آخر, هناك طالبان أمام مدرسة, أحدهما مبسوط يقول لصاحبه' الكشري': يا بني اعقل.. ح يمتحنونا في إيه إذا كان فيه أزمة ورق؟ وفي رسم آخر يظهر مركز رصد الزلازل وبه موظف يقول: ده مش زلزال وأنت الصادق.. دي مصارين أهالي تلامذة الثانوية العامة بتكركب. ظهرت بوادر السخرية مبكرا عند صلاح جاهين وهو طالب في الثانوية, إذ يقول صديقه الرسام هبة عنايت: كنت أرسم بخطوط سريعة ومن الذاكرة وجه فلاح فما أكاد أنتهي من الرسم حتي يكتب تحته' فلاح مصري ابن ناس يستاهل ضرب المداس'.. وعندما أرسم وجه خواجة مثلا فيكتب' عجوز انجليزي أبن هرمة يستاهل ضرب الصرمة'.. وذات مرة كنا نستمع إلي صوت أسمهان تغني:'دخلت مرة في جنينة أشم ريحة الزهور' فعلق صلاح قائلا:'ريحة الزهور ممكن نشمها من غير دخول الجنينة ثم إن أي واحد ممكن يدخل جنينة, يعني مافيهاش شطارة' قلت: طيب قول لي عاوزها تقول إيه علشان يبقي فيها شطارة؟! فسكت برهة وقال: دخلت مرة في قزازة أشم ريحة الكازوزة, قالوا حلوة بلذاذة لقيتها حلوة بلذوذة.. كدة يبقي ليها طعم وريحة كمان.. ها.. ها.. وقال صلاح أبياتا من الشعر الفكاهي: جاءت سنية للدكان باسمة ريانة الرأس تبتاع منديلا وزغزغتها فاستبوخت عملي قلت ماذا قالت بس جك نيلة كما قال: في حانة الفقر والآمال خرساء وبومة النحس تنعي حظ من جاءوا شربتها خمرة سكا مركزة لم تأتها صودة أو شابها ماء ليلي تسلت بقلبي فهو في فمها ابنة إيكة هبا باء ( والكلمة الأخيرة هي نوع قديم من اللبان). وتكتشف سخرية صلاح في الرباعيات وهو ينتقد المغرورين' المتغطرسين': يا طير يا عالي في السما طظ فيك ما تفتكرش ربنا مصطفيك برضك بتاكل دود وللطين تعود تمص فيه يا حلو.. ويمص فيك عجبي.. [email protected]