لإمام الدعاة, فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي, مكانة عالية ومنزلة سامية, تبوأت في ذاكرة التاريخ المعاصر موقعا يجعل الذين عاصروه ينقلون إلي من بعدهم من الأبناء والأحفاد أنهم رأوا هذا الإمام وعاصروه, واستمتعوا بالاستماع إليه وعايشوه. ولقد سعدت بصحبته, وبمحبته وصداقته, فوجدته أحد الأئمة القلائل الذين لايظهرون في التاريخ إلا علي فترات متباعدة, إنهم لايتكررون في القرون إلا قليلا, لأنه أحد الذين لهم قدم صدق عند ربهم, أحب القرآن فأفضي إليه بأسراره, وأحب رسول الله صلي الله عليه وسلم فأفاض عليه من أنواره. تمتع بالتواضع الجم الذي لايتسم به إلا شوامخ الأئمة والعلماء, فمن صور تواضعه أن كنا في مجلسه لتسجيل ندوة دينية وكان في المجلس بعض العلماء وآثرت عندما طلب منحه الحديث أن أجعل وقتي لسيادته, فأبي وأصر علي أن يستمع إلي, وتحدثت وأبدي بذوقه الرفيع استحسانه وتقديره, واستمع إلي جميع الحاضرين, وحدثني عن سمة التواضع المتأصلة فيه منذ طفولته عندما قال إن والده رحمه الله وصاه وصيتين لايتركهما طوال حياته: أما الوصية الأولي: فهي التواضع وبين أن التواضع هو سر الرفعة والصعود, وأنه ينقاد به الخير للإنسان وتتكشف له أسرار العلم. وأما الوصية الثانية التي وصاه الوالد بها فقالها باللغة الدارجة العامية قال له: اشعبط في ربنا ولا تخف من مخلوق, ومراد العبارة أن الاتصال بالله ينجي صاحبه من كل شر, حتي ولو كان علي سبيل الاتصال الذي لايكون كثيرا جدا, بل حتي ولو كان قليلا فالله يحب من عباده أن يتقربوا إليه ولو قليلا فما داموا مخلصين يتقرب الله منهم كثيرا, كما جاء في الحديث القدسي: من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة. ومن ذكرياتي مع فضيلة إمام الدعاة لقاؤنا في مكةالمكرمة, وحين علم أحد المصريين بقدومه قصدني أن أشفع له عنده في طلب, وكان إمام الدعاة يحب الخير لجميع الناس ولايمنع أحدا من أن يطرق بابه, وما إن رجوته إلا واستجاب, لأنه دائما وأبدا يذكر: إن من نعم الله عليكم حوائج الناس إليكم. وأذكر في هذا الصدد لقائي به عندما ذهبت في إعارة من جامعة الازهر إلي جامعة الملك عبدالعزيز, وهي الآن تسمي جامعة أم القري, وكان يقوم بالتدريس فيها, فلما وصلت إلي مكة علمت أن فضيلة الشيخ الشعراوي أختير وزيرا للأوقاف في مصر, وأني سأقوم بتدريس المنهج الذي كان يقوم به, فرأيت أن أذهب لزيارته في مقر مسكنه في صحبة استاذي العارف بالله فضيلة الأستاذ الدكتور الحسيني هاشم وكيل الأزهر الأسبق فاستقبلنا بالبشر والترحاب وعرفت من فضيلته المنهج الذي سأقوم باستكمال تدريسه للطلاب, وبينما كان يتأهب إمام الدعاة للإعداد للسفر والعودة إلي القاهرة إذ جاءه بعض أصحاب الحاجات يشكون إليه ويقولون: إننا ما أتيناك لنطلب منك شيئا ولاشفاعة من أحد ولكن لتدعو الله لنا وأن تذهب مع جمعنا إلي زيارة الرسول صلي الله عليه وسلم وتدعو الله لنا في الروضة الشريفة. استجاب الشيخ علي الفور وكتب يستأذن كلية الشريعة التي لايزال علي قوتها قبل سفره وكتب طالبا الإذن بالسفر لزيارة رسول الله صلي الله عليه وسلم, فقال العميد لايصح أن يقول لزيارة الرسول بل عليه أن يقول: لزيارة المدينة, وعندما ناقش عميد الكلية فضيلته في ذلك أجاب قائلا: لو قلت للسفر إلي المدينة اكون خاسرا, لأن الصلاة في مكة بمائة ألف وأما الصلاة في المدينة فبألف, إنما أنا أسافر لزيارة رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي لولاه لما كانت المدينة حرما, ولما كان ما بين بيته ومقبره روضة من رياض الجنة, فاقتنع العميد, وسافر فضيلته ومن معه وزاروا أشرف الخلق صلي الله عليه وسلم ودعا الله تعالي لهم في الروضة النبوية الشريفة وأنشد يقول في مناجاة عذبة وتضرع: مولاي ضيفك من كل الدنا جاءوا فامنن عليهم بما شاءوا لمن شاءوا وفوق ماعرفوا من فضل ربهمو ما قد عرفت وكم لله آلاء فاولهمو من فيوض الخير حظهمو فأنت قاسمها والله معطاء وما إن عادوا إلا وقد حقق الله الرجاء بفضل هذا الدعاء. وكان إمام الدعاة إلي جانب تواضعه الجم وإلي جانب قضائه لحوائج الناس كان في قمة الكرم والبذل والعطاء. فعندما زرناه عند عودته من رحلة العلاج في لندن أعطي جميع الوفد هدايا قيمة لكل فرد عباءة( امبريال), وكان يحفظ في بيته جميع المقاسات حتي يعطي كل زائر ما يتناسب مع مقاسه, وعند زيارتي له في بيته بعد عودته من رحلة العلاج في لندن, قدمت إليه قصيدة شعرية هنأته فيها بسلامة الوصول وجاء فيها. فرحت بمقدم ركبك العلماء وتبسمت مصر ولاح ضياء والمسلمون توافدوا للقائكم فشفاؤكم للمسلمين شفاء وسر فضيلته بالقصيدة وبعد أن شكرني قال في تواضع جم كما هي عادته لا أستطيع أن أبادلك شعرا بشعر, ولكني استطعت أن أبادل الشاعر السعودي الدكتور غازي القصيبي وكان سفيرا للسعودية في لندن آنئذ, ولما علم أن الشيخ أجري جراحة في استئصال المرارة زاره وكتب بيتين من الشعر قال فيهما. ادعوا لشيخ المسلمين بأن تدوم به النقاوة لما مضت عنه المرارة لم تعد إلا الحلاوة فأجابه الإمام الشعراوي قائلا علي الفور مرتجلا: الله أسأله لغازي أن يديم به الحفاوة بسليم أجهزة تعيش مع المرارة في حلاوة وكم من ذكريات طيبة كانت لنا مع إمام الدعاة رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلي مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.