تعود الأزمة السياسية الراهنة في مصر إلي عناصر متعددة لها جذور في الواقع السياسي بعد الثورة وبعد نجاحها في خلع رأس النظام ورموزه, كانت هذه العناصر بادية للعيان حتي ولو لم يكن ذلك بالقدر الكافي بيد أن نجاح الثورة في الإطاحة برمز النظام ورأسه قد خلق حالة من النشوة والفرح بالانتصار, ربما قللت من الانتباه إلي خطورة وجود هذه العوامل وتطورها في المستقبل وانعكاس محصلة ذلك علي مسار الثورة ومطالبها الآجلة والعاجلة. في مقدمة هذه العناصر التي أفضت إلي الأزمة الراهنة افتقاد الشفافية والوضوح إزاء العديد من المطالب الثورية وغياب جدول زمني واضح وعلني, لتحقيقها وتحديد الآليات والكيفيات التي تكفل التنفيذ, وإحاطة كل القوي السياسية في المشهد الذي أعقب الثورة علما بها, من ناحية أخري غياب الحوار بين المجلس العسكري الحاكم وبين قوي الثورة وممثليها, بل لزم المجلس العسكري الصمت في مواقف مختلفة وإزاء مهمات نوعية, كانت تستدعي التواصل والحديث والشرح والتفسير, وبدا للكثيرين من الثوار والمواطنين أن هذا الصمت غير مبرر, وأن الغموض الذي يغلف العديد من القضايا ليس بناء بالضرورة, وأن نمط الاتصال القائم بين النظام الجديد وبين القوي السياسية والثورية التي صنعت الثورة أشبه كثيرا بنمط الاتصال السابق علي الثورة بكل ما يعنيه ذلك من إحباط وخيبة أمل. لاحظ الثوار والمواطنون علي حد سواء أن الطريقة التي تتخذ بها القرارات خلال الشهور الأخيرة لم تختلف كثيرا عن طرائق النظام السابق, في اتخاذ القرارات, فهي قرارات فوقية أحادية تتخذ من جانب واحد, وليست محصلة تفاعل وتفاهم ونقاش, كما كان يمكن توقعه بعد الثورة اغفلت هذه القرارات الفاعل السياسي الجديد الذي اقتحم المشهد السياسي إبان الثورة ألا وهو كتلة الثوار والأغلبية التي خرجت من غياهب الصمت, لتشارك في تقرير مصيرها وتقرير السياسات التي ترتضيها وتحقق مصالحها في الكرامة والعدل, وقد تجلت آلية اتخاذ القرارات في تعيين المحافظين الجدد والابقاء علي عدد من الوزراء الذين ينتمون للنظام السابق وسياساته. تفهم المواطنون والثوار التباطؤ في اتخاذ القرارات علي ضوء الطبيعة الخاصة للمؤسسة العسكرية والمجلس العسكري الاعلي علي رأسها وخصائص عملية اتخاذ القرار فيها والتي من بينها التأني والدراسة والجماعية, بيد أن هذا التباطؤ امتد ليشمل قضايا عاجلة لاتحتمل بطبيعتها اهدار الوقت والزمن كمحاكمة قتلة الثوار ورموز النظام السابق المتهمين في قضايا فساد, بل وتبرئة البعض منهم, وفي هذه اللحظة تحديدا ظهر الفارق جليا بين الزمن العادي والزمن الثوري. لاحظ بعض الباحثين غياب تعبير ثورة25 يناير في القرارات والقوانين الرسمية الصادرة وهو ما يعني رفض بيروقراطية الدولة المصرية ذات الطابع المباركي الاعتراف بالثورة والحول دون دخولها الي السجل الرسمي للدولة المصرية. بالاضافة الي ما تقدم أوجدني الاجندة او خارطة الطريق التي طرحها المجلس العسكري لانتقال السلطة مضاعفات وانقسامات كان من شأنها احداث استقطاب بين معسكرين في قوي الثورة, الاول مع هذه الخارطة الزمنية والموضوعية والثاني ضدها, الي ان افضي ذلك الي حل وسط يتلخص في مجموعة من المبادئ التي ينبغي ان يتضمنها الدستور المقبل بين عدد كبير من القوي السياسية من الجانبين والمهم في السياق الذي نحن بصدده ان الانشغال بهذا الانقسام وتعزيز مواقع كل فريق فيه قد استهلك بعض الوقت الذي كان ضروريا لتأمل مسار الثورة وطريق تحقيق مطالبها, ومثل ذلك تغطية غير مقصودة للالتفاف حول مطالب الشعب وابطاء وتيرة التغيير, بل ربما تحجيم مطالب الثورة والوصول بها الي الحد الادني. حفل مشهد ما بعد نجاح الثورة بالعديد من التناقضات التي افضت الي ما نراه اليوم من ازمة سياسية كبيرة حيث يشهد معسكر الثورة انقسامات عديدة بعد تحقيق الهدف الذي جمعها, اي اسقاط مبارك رأس النظام, بينما بقي النظام ذاته, ذلك ان النظام السياسي ليس حصيلة مجموعة بعض عناصره ورموزه بل هو توجهات وسياسات وقيم ومبادئ ومصالح تتجاوز الأفراد, وبقيت مطالب الثورة عالقة في اهم جوانبها واكثرها حيوية علي ابواب البيروقراطية المصرية ونسختها التي تنتمي للنظام السابق, وكما لو كانت هذه البيروقراطية المنتمية لنظام مبارك تريد تأليب المواطنين علي الثورة وتشويه صورة الثوار عبر ترديد شعارات وقف الحال والانتاج وتعطيل مصالح الناس وحمل الثوار علي البقاء في الميادين لتبرير عدم تنفيذ المطالب الشعبية بحجة وقف العمل والانتاج. ونتيجة لذلك فان الاداء الرسمي بكل مستوياته تميز بالارتباك والارتجال والتضارب وافتقاد رؤية واضحة لطبيعة المرحلة الانتقالية التي تؤسس للنظام الجديد وتوزع اهتمامه بين الابقاء علي النظام القديم واخراج صورة جديدة منه وهو الامر الذي ترفضه تماما قوي الثورة التي لحسن الحظ لاتزال يقظة وحية ولاتريد للثورة واهدافها ان تعود القهقري أبدا. واخيرا وليس آخرا فانه بعد نجاح الثورة ردد الكثيرون باعتزاز ان هذه الثورة ليس لها قائد بل كل من شارك فيها قائد بحد ذاته, وان ذلك طبيعة التقنيات التي استخدمها الثوار وهي تقنيات الميديا الحديثة عبر الانترنت, التي تتيح للجميع المشاركة علي قدم المساواة واعتبر آخرون ان هذه ميزة تنفرد بها الثورة المصرية وغيرها من الثورات, لكننا بعد مضي هذه الفترة يمكننا مراجعة ذلك, فافتقاد القيادة في الثورة ليس ميزة مطلقة, حيث افضي ذلك الي الفصل بين الثوار وبين قيادة التحولات في المجتمع وادارتها, واوكلت هذه المهمة للمجلس العسكري الذي قبلها طوعا والذي استحقها عبر مواقفه المتدرجة في حماية الثورة وتبني اهدافها, بيد ان قيادة الثورة عبر الثوار تتوفر لها ميزات نوعية تؤهلها لانجاز مهام الثورة فهي تتحرر من البيروقراطية والتراتيبية والهرمية وتتمتع بطاقة الدفع الثورية لانجاز المهمات والتحولات المنشودة في المجتمع ذلك ان هذه القيادة تجيء من خارج الاطر الهيكلية والمؤسسية للدولة, وذلك لايقلل بحال من قيمة وهيبة المؤسسة العسكرية المصرية خاصة ان تاريخها ينم عن التحامها بقضايا الوطن منذ نشأتها كمؤسسة حديثة, محترفة حتي الآن, بيد انه من الضروري فتح صفحة جديدة مع الثوار وتسريع انجاز اهداف الثورة ومحاكمة قتلة الثوار, فالعدالة وتوافر اركانها لايرتبطان بالضرورة بالبطء والتباطؤ, كما ان السرعة والتسريع في محاكمة هؤلاء لايرتبطان بالظلم او احتقار العدالة ذلك انه يمكن ضمان العدالة وتوافر اركانها في كل المحاكمات الحاسمة والناجزة. المزيد من مقالات د. عبد العليم محمد