و تبقي قضية اختيار الحاكم و علاقة الحاكم بالمحكوم و غواية كرسي العرش واحدة من أبرز وأخطر القضايا التي شغلت الإنسان علي مر العصور ، فطرحها في سياقات ومجالات مختلفة، بداية من الرسوم و النقوش التي حفظتها معابد و مقابر المصريين القدماء مروراً باطروحات رجال الدين ،علي اختلاف ديانتهم و مذاهبهم ، والفلاسفة و الساسة و علماء الاجتماع و الأنثروبولوجي، وصولا للأدباء و الكتاب المحدثين في العصر الحديث و انتهاءً بالحالة الثورية التي يعيشها عالمنا العربي الآن و التي خرجت بالقضية من حيز قاعات الدرس المغلقة والكتب و المذكرات المنسية علي أرفف المكتبات لتصبح جزءاً من نسيج حياة المواطن العادي، أمياً كان أم عالماً أو فقيهاً دستوريا ، شاباً، بل و صبياً كان، أم كهلا يستعد للرحيل..الجميع أمام المعضلة سواسية و القضية تحولت لشاغل ملح فرض نفسه علي الجميع ، سواء كانوا حكاما أو متطلعين لاعتلاء مقعد السلطة أو طامعين في حظوة من صاحب الكرسي الموعود أم مجرد محكومين تاريخ طويل و حكايات وأحداث و أفكار مرت بالكثير من التحولات و شكلت محطات في تاريخ تطور الفكر الإنساني، أعترف أن ذاكرتي قد خانتني فلم يطف علي السطح إلا شذرات قليلة منها، كان من بينها شكاءات فلاحنا المصري القديم الفصيح وسطور في كتاب الموتي وتعاليم كونفوشيوس ورؤي ابن خلدون وصفحات المقريزي و أمير ميكافيللي و طبائع استبداد الكواكبي و قائمة طويلة من الفلاسفة المؤسسين لنظريات لاتزال بعض من تداعياتها، حتي وإن سقطت أو طواها النسيان، تتحكم في عالم اليوم ترسم ملامح العلاقة بين الحاكم و المحكوم و أظن أن الكثير منها يحتاج للمراجعة و إعادة القراءة في وضعنا الحالي. و لم يتخلف الأدب عن محاولة تشخيص الواقع السياسي المعاصر والأنظمة القائمة علي الحكم الفردي و التسلط و الاستبداد و تصوير أمراض السلطة و والانتهازية الوصولية وانتهاك حقوق الإنسان و الزج به داخل السجون والمعتقلات السياسية وبيمارستانات المجانين.و إذا انتقلنا لمحاولة مراجعة القضايا التي طرحتها الأشكال الأدبية المعروفة و تحديداً في الرواية والمسرح تفاجئنا ملاحظة لا أدري حتي هذه اللحظة مدي دقتها ،وربما كانت إحدي حيل العقل. فبينما تطالعنا قوائم طويلة من الروايات التي تناولت قهر المحكوم وغياب الحريات و السجن بمعناه المادي و المعنوي،منها علي سبيل المثال لا الحصر «كرنك» نجيب محفوظ و روايات صنع الله إبراهيم (ذات ، و تلك الرائحة، ونجمة أغسطس ، واللجنة وبيروت بيروت ) ورواية حسن محسب وراء الشمس، رواية شريف حتاته (الهزيمة) و قصر أفراح عبد السلام والعمري وعبدالرحمن منيف في روايته السياسية (شرق المتوسط)، وروايات الطاهر وطار (اللاز والزلزال و عرس بغل وغيرها وسجن نبيل سليمان وقلعة فاضل العزاوي الخامسة، ووشم عبد الرحمان مجيد الربيعي ومستنقعات إسماعيل فهد إسماعيل الضوئية، علاوة علي روايات عبد الرحمن منيف، و جمال الغيطاني وبنسالم حميش،تجدفي المقابل أن الأعمال الروائية التي كان محورها سبر أغوار شخصية الحاكم و غواية السلطة أقل من عدد المسرحيات التي تناولت هذا المحور وعرضت لأصول الحكم وشرعية الحاكم ودور البطانة و الرعية في إفساد الحاكم و غواية السلطة (ومنها علي سبيل المثال السلطان الحائر بريسكا و شمس النهار لتوفيق الحكيم والبر الغربي لمحمد عناني وبلدي يا بلدي لرشاد رشدي والناس في طيبة لعبد العزيز حموده وأنت اللي قتلت الوحش لعلي سالم والملك هو الملك لسعد الله ونوس، وغيرها). ففي سياق الأعمال الروائية التي كان الحاكم الشخصية المحورية فيها لم تسعفني الذاكرة و لم أتذكر ألا زيني بركات الغيطاني وعمل آخر لنفس الكاتب عن التحولات النفسية لمخبر، وعسكري يوسف إدريس الأسود وبطل رواية رياح الهند الموسمية لأسامة أنور عكاشة، ومزرعة حيوانات جورج أورول. وبالرغم من أن هذه الملاحظة تحتاج لمراجعة دقيقة لإثبات صحتها أو خطئها،إلا أنها ربما تكشف عن الجديد الذي تقدمه روايات جمال مقار الجديدة «رقصة الكتكوت الأخيرة» والتي تقدم في شكل فانتازيا تنويعة جديدة علي حكاية من حكايات ألف ليلة و ليلة ، أقرب ما تكون لرؤية ونوس في الملك هو الملك . فالرواية التى تعكس بطريقة بارودية ساخرة مدي تردي الأوضاع في عالمنا العربي، لا تكشف فقط المستور أو تنزع عن الحاكم صفة البطل المعصوم من الخطأ أو الشيطان الفاسق الملعون علي مر الزمان، بل أيضا تمثل حالة من مواجهة الذات والموضوع . ففي ظل غياب قانون يحكم العلاقة بين الحاكم و المحكوم و يضمن وجود آلية ضابطة يصبح الحاكم والمحكوم أشبه بكتكوت يقفز فوق سطح ساخن ويصبح الممكن الوحيد تحول المواطن البسيط المقهور إذا ما أتيحت له الفرصة لطاغية واستمرار بطانات السوء فى تزين أفعال الحاكم من وراء الستار، وتحويل البسطاء بدافع الخوف والقهر أي حاكم لفرعون موسي جديد .. وأن يظل الملك هو الملك.إلى أن يرقص رقصته الأخيرة.