طال الفراق.. صاحبي يواصل الاتصال هاتفيا, إذ أنه يعيش مع وثبة الشباب منذ 25 يناير. سألني: متي سوف أخنتم سلسلة التنقيب في أصول مصر المستقبل؟.. ثم فاجأني بالأمس مهرولا من باب اليمين إلي قاعة المكتب, مجلسنا. بدأ صاحبي من القيادات تساءل العديد من المراقبين, كما فعلت أنت, عن غياب البرنامج والقيادة في ثورتنا ألا تري معي أن المهم هو حركة الجماهير, وأن البرنامج والقيادة أمور إضافية تظهر عندما تتضح الأمور وتتحول الانتفاضة إلي ثورة؟... ليس هناك قواعد ثابتة لدراسة تحرك الجماهيرعندما تنتشر إلي قطاع واسع من الشعب. وفيما يتعلق بموضوعنا, فمن اللافت أن مطالب جماهير ميدان التحرير والميادين الأخري بالإسكندرية والسويس وعدة أقاليم تركزت حول المطالب الأمنية بشكل طبيعي, ثم اتجهت إلي المطالبة برفع مستوي معيشة جماهير الشعب. وكان من المتوقع أن تندرج هذه المطالب في برنامج عام كما حدث في ثورات مصر المعاصرة منذ 1881, ثم 1919, و 1920حتي 1925 صاحبي يقاطعني: هذا أمر طبيعي.. ثورات مصر المعاصرة تمت علي أيدي أحزاب أو تنظيمات سياسية ثابتة لها أركان وبرامج. ولكننا الآن أمام حركة شعبية شاسعة لم تصدر تلبية لنداء قيادات محددة. أليس كذلك؟... ربما المدخل لتوضيح هذا المجال يكمن في تدقيق النظر في حالة الأحزاب علي ساحة الوطن. اللافت حقيقة أن الأحزاب القائمة, أقصد بذلك أحزاب المعارضة القائمة أي الوفد والتجمع والناصري والجبهة الديمقراطية في الأساس اختفت من الإعلام. فلو طالعنا مثلا أهم الصحف اليومية لا نطالع فيها رد فعل هذه الأحزاب ولا مطالبها ولا رؤاها وكأن الساحة السياسية الحزبية المصرية زالت مع رحيل النظام السابق. ولكن هذه الأحزاب موجودة, ثم إن هناك أحزابا جديدة, معظمها ذات توجه ديني, تنتشر علي امتداد الساحة بكل أجنحتها المعروفة. لا بأس, واللافت أيضا هنا أن هذه الأحزاب الجديدة تنتشر أخبارها يوميا في كبري الصحف اليومية بدلا من أخبار أحزاب المعارضة التقليدية. وكأننا أمام مساحة حزبية دينية متكاملة.. بدلا من ساحة الأحزاب المصرية القائمة تاريخيا. صاحبي يتساءل: يعني أفهم من كلامك أن المجتمع السياسي تبدل؟.. أم ماذا؟... صاحبي ينتقل بنا إلي جوهرالتساؤل, فإذا تغيرت الساحة الحزبية في البلاد, فإن هذا يعني أن المجتمع قد تغير, ولو إلي درجة كبيرة, فهل تغيرالمجتمع المصري؟.. هل تغيرت الطبقات الاجتماعية وتأثيرها علي الاقتصاد وموازين القوي الاجتماعية في المدن والقري؟ هذه مثلا ساحةالقمة التي يحتلها المجلس الأعلي للقوات المسلحة منذ تنحي رئيس الدولة السابق.. أين التغيير؟.. وإن كانت العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مرحلة انتقالية لم تتحدد بعد معالمها, فإنه من المعقول أن يستمر نشاط أحزاب المعارضة التقليدية جنبا إلي جنب مع نشاط الأحزاب السياسية المشروعة الجديدة, وأن يحظي الجميع بنفس الاهتمام في الإعلام, من حيث يمكن متابعة الجديد الطالع بشكل دقيق ومتصل دون إلغاء منظومة الأحزاب القائمة. صاحبي يواصل حديثه عن المستقبل: أعتقد أن المهم أن تحدد جميع الأحزاب, وكذا مدارس الفكر والعمل علي تنوعها, رؤاها بالنسبة إلي القطاعات الكبري.. هناك أولا نظام الحكم وهو جوهر الدستور الجديد المرتقب. ثم هناك نظام الاقتصاد, فهل هو اقتصاد حر أي اقتصاد السوق علي النمط الأمريكي, أم أنه اقتصاد الدولة, أو أنه اقتصاد مشترك بين قطاع عام تسيطر فيه الدولة علي النواحي الرئيسية, وقطاع خاص يتسع إلي الإنتاج في كل المجالات التي لا تمس أمن الدولة؟ ثم, وعلي أساس هذا الاختيار: كيف تكون علاقاتنا الاقتصادية مع مختلف التجمعات والدول؟ ولاشك أن قطاع التعليم والثقافة والفكر والإعلام في حاجة إلي دراسة متأنية بحيث تتسع الدولة المدنية الديمقراطية المرتقبة إلي أوسع ساحة, بحيث تفيد مصر الغد من تراكم تراثنا الحضاري السبع ألفي دون إقصاء أي من مراحله, وذلك للتعجيل من الخروج من مآزق التخلف التي عانينا منها منذ زمن طويل بينما تمتلك مصر ترسانة هائلة في مجالات الفكر والثقافة والفنون... تصورت أن صاحبي يتحدث بلساني, أو ربما أنه توارد الخواطر؟ جميع النقاط التي اثارها صاحبي تمت إلي مجال التساؤلات العقلانية الوطنية المقبولة لدي غالبية القوم. ورغم هذا لم نر لها إجابة حتي الآن علي شكل عدد من برامج العمل تتقدم بها مختلف القوات السياسية والمدارس الفكرية, بحيث تتحدد تدريجيا معالم مصر المستقبل. أعترف بأنني لم أهتد إلي سبب واضح لهذا الأمر, لاسيما بعد مرور ستة أشهر علي 25 يناير. المهم أن يلتفت جميع المعنيين بحراك الجماهير, وأن يهتدوا إلي سبل الجمع بين ترسانة برامج وإنجازات الموجات الثورية السابقة من ناحية وجديد احتياجات المجتمع المصري بعد يناير 2011 من ناحية أخري. ثم هناك موضوع بالغ الأهمية يبدو وكأنه انزوي من الوجود. أقصد بذلك موضوع موقف مصر من العالم الجديد سياسة مصر الخارجية. رأينا تحركات محمودة لرئيس الوزراء, وخاصة لوزير الخارجية السابق المرموق الدكتور نبيل العربي, وكلها في اتجاه بناء الجسور مع شركاء مصر علي ساحة إفريقيا النيلية, والشرق الأوسط الكبير, حتي آسيا, ثم توقف كل شيء وسمعنا أقوالا تتنكر إلي جديد التحرك المصري, خاصة إلي الشرق الحضاري. وفي الأشهر الأخيرة تراكمت التحديات من حولنا: الحرب في ليبيا غربا والنزاعات المسلحة في اليمن والبحرين وسوريا, ثم انقسام السودان وتكوين دولة جنوب السودان, أقرب الدول العربية إلي منابع النيل الآن, ثم ارتفاع مستوي الترسانة النووية والاستراتيجية الإسرائيلية, وتمركز حاملات الطائرات الأمريكية بأساطيلها المواكبة في البحر الأبيض والخليج وغرب المحيط الهندي جنوب الجزيرة العربية. هذا بينما تتصاعد المواجهة بين الولاياتالمتحدة والصين, وتباشر روسيا سياسة خارجية نشطة من جديد, بينما تسعي عدد من الدول الأوروبية إلي استرداد نفوذها. صاحبي يتساءل: هل أفهم من كلامك أن أمامنا واجب رفع مستوي اهتمامنا بسياسة مصر الخارجية, وذلك بالجمع بين ما هو قائم من ناحية, هذا مع التركيزعلي جديد العالم, خاصة في آسيا ودائرة النيل الإفريقية وأمريكا اللاتينية؟ هناك عدد غير قليل من الدارسين والخبراء في مراكز البحث خاصة وكأنهم خارج الصورة.. أين الوزارة الجديدة مثلا من مكانة مصر من العالم الجديد؟ أليس هذا جزءا حيويا من ميثاقنا الوطني.. المستقبلي نحن في أمس الحاجة إليه؟.. مرة أخري: مازلنا نفتقر إلي البرامج لحظة تراكم التحديات العالمية والإقليمية من حولنا. صاحبي يوافقني, يتساءل: لماذا لا نسرع من تشكيل مجلس أمن قومي يجمع صفوة المسئولين المختصين والخبراء؟ أعتقد هذا الأمر متاح, أوعلي الأقل سوف يمكن أن يتحقق بعد صياغة الدستور الجديد, وعلي أساس تحديد المبادئ والأهداف والأدوات الرئيسية لتحرك مصر في العالم الجديد. قال صاحبي: أراك تفتح الساحة أمام كل الجدعان.. إنها لحظة تعبئة الطاقة الاجتماعة الوطنية في مواجهة دعاة التفرقة والرجعية.. أليس كذلك؟. [email protected] المزيد من مقالات د.أنور عبد الملك