بدأت النهضة المصرية الحديثة منذ قرنين وعقدين، مستدار القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، وكانت هذه النهضة فريدة بين نهضات الأمم الكبرى فى العصور الحديثة, اذ كانت هذه النهضات بعثا واحياء لموروثات حضارية توارت أو افلت، اما النهضة المصرية فكانت ولاتزال استئنافا لمبادرة خالدة فى التاريخ الانسانى. كان نهوض مصر الحديثة استئنافا لصعود دام آلاف السنين وتصفية لخمود جمد الابداع الحضارى المصرى فى القرون الأخيرة، ولقد توهج المصريون المحدثون، ورثة الهداة البناة الأقدمين، فى اقامة بنية مجتمعية اساسية وهياكل تعليمية واكاديمية حديثة، وفى الوصول إلى صياغات دستورية وقانونية متوازنة تتصل اتصالا حميما بالمفهومات الجوهرية للمواطنة بما تنتظمه من الحقوق والواجبات والحريات واعمال العقل فى تعادل مسئول ناقد تقويمى بين النقل والعقل، اما الابداع الجمالى فى الآداب والفنون فكان نابغا ينهض على وعى رواده بخوالد الموروثات والتأسيس عليها تلبية لحاجات التحديث والمجتمع الناهض، حتى صار التجديد معيار مرتضى لتقويم المنتجات والحركات والاتجاهات والمدارس فى الاداب والفنون. ومضى المصريون المحدثون على الطريق النهوضى معتمدين القاعدتين الضروريتين للتحديث: المؤسسية والتعددية. نشأت المؤسسات الحديثة بوجهيها الحكومى والأهلى وللمؤسسات الأهلية المصرية، منذ العقود الأولى للقرن التاسع عشر، ادوار مؤثرة باقية فى بناء مصر الحديثة، وهاهنا يشهد الراصد المحقق ان ابناء مصر النهضة كانوا الورثة البررة لاجدادهم الاولين، وبأن مصر فى كل اطوار تاريخها وازمنتها الثلاثة الصعود والخمود والنهوض كانت ولاتزال هبة المصريين. ان كل الشأن فى بناء المجتمعات نشاط البشر، ولقد نشط المصريون المحدثون لبناء الوطن الناهض منتظمين منظمين فى مئات الجماعات والجمعيات والروابط الأهلية املا فى اقامة التعليم المدنى الحديث من أول مراحله العامة إلى اخر مراحله العليا والجامعية، وفى تشييد دور الاستشفاء والصحة والصحافة والترجمة والنشر والاذاعة والمسرح والسينما والخدمة العامة والرعاية الاجتماعية، هذا عن قاعدة التحديث الأولى، المؤسسية التى قامت فيها المؤسسات الأهلية المستقلة بالدور الأول. اما القاعدة الثانية للتحديث، التعددية، فقد اتسع فيها الفضاء الناهض لكثرة من المدارس والمناهج والاتجاهات والتنظيمات، نظرا فى التعبير والتفكير والبحث والاجتهاد والتفسير والتأويل والتشكيل، وتنظيما فى عمل القوى الاربع التى رشحها التاريخ المصرى الحديث واثمرها المجتمع: الليبرالية والاشتراكية والدينية والقومية، بيد ان المجرى الدافق لم يكن صافيا فى كل احواله انما كان هناك مايعكر بل كان هناك ما يعطل، كان يجرى تحت سقف من الملكية والاستعمار، وكان يجرى والبنية المجتمعية تشهد نضجا ظاهرا للطبقة الوسطى وظهورا ناضجا لمشكلات العمال والفلاحين. وتبدى كل ذلك فى الافق الفكرى والسياسى فى اربعينات القرن الماضى، إذ وهنت القوى الكلاسيكية التى قادت ثورة 1919 فى ذات الوقت لم تتسع الصياغات الدستورية والقانونية التى اثمرتها تلك الثورة المجيدة للراديكالية فظلت هذه الراديكالية، اليسارية واليمينية، مقيدة ومحاصرة، كل هذا وضع البلاد فى مأزق تاريخى رأت الطلائع ألا مخرج منه إلا بالديمقراطية، حيث الجبهة المتحدة سبيل التحرر الوطنى والعدل الاجتماعي، منازلة الاستبداد الاجنبى ومنازلة الاستبداد المحلى فى معركة واحدة فاصلة. ولقد أمن ضباط يوليو 1952 بغايات النهضة وتنبوا الآفاق العامة لاجتهادات الطلائع فى التحرير والتحديث، لكنهم اقاموا نظام حكم يثمر نتائج عكس ما آمنوا به وما تبنوه، إن اليوليوية حقيقة مصرية، وستظل فى ميزان التاريخ مادة مهمة للدراسين والمحققين، انما تقف فى مقامنا هذا عند جوهر نظام الحكم الذى أدارت به البلاد، مع الاعتداد بالفروق الفردية بين رؤساء مراحلها الثلاث وبالملابسات والمتغيرات التى نشطوا خلالها، النظام هذا هو حكم الفرد المطلق، وهذا الاساس نقيض التحديث وضد قاعدتى النهضة، المؤسسية والتعددية، قوض الحكم المطلق المؤسسية، فتحولت المؤسسات الرسمية إلى إدارات بيروقراطية خربة، وتحولت المؤسسات الأهلية إلى جمعيات خدمات يومية محدودة محرومة من العمل العام، وطمس الحكم المطلق التعددية فانفرد بالأمر كله، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وإعلاميا، وحرمت جميع القوى من المشاركة فى إدارة شئون بلادها. لقد تقدمت الطلائع إلى عبدالناصر بمطلب الاصلاح غداة هزيمة 1967 لكن ذاك الأساس غلب واطرد، وتقدمت إلى السادات بذات المطلب غداة انتصار اكتوبر وكارثة استثماره سياسيا لهذا الانتصار المجيد وظهور ميله إلى تقريب اصحاب الثروة والاتجاهات اليمينية، واتسع الخرق اتساعا مفزعا زمن حسنى مبارك الذى ذهب بعيدا فى الاعتماد على بيروقراطية عجوز عاجزة وأمنية حملها من المهام الفكرية والسياسية ما ليس من عملها وصارت الاثنتان يده التى يبطش بها، فلما تمادى ذلك الفرد المطلق فى تثبيت اساس ذاك النظام، توسل بالتحالف المهين مع الاستبداد الخارجى والتحالف المدمر مع قوى الاستبداد المحلى من العناصر المستغلة والمحافظة والرجعية. ها هنا تراجع مطلب الإصلاح وصار الأمر إلى ضرورة الثورة الشعبية الشاملة، وسطع الهدف الحق فى اللحظة التاريخية المستحقة: إسقاط النظام. لقد انعدل الميزان وسطعت نجاحات ثورة يناير 2011 القائمة الدائمة، وثمة وقفات ثلاث ضرورية مدخلا إلى هذه الامجاد: الأولى ان الطلائع أفلحت فى ضم الجموع، اعتمادا على التراث النضالى المصرى وصدورا عن الغايات الجامعة، فضاء نشاطه الوطن كله، ونهض بالإعداد التنظيمى له ست مجموعات، عملت باطراد دائم دائب ست سنوات، من خريف 2004، واستطاعت ان تأتلف وان تضم إلى ائتلافها مجموعات شبابية من القوى والاحزاب، تجاوزت التناحر الذى اثمرته الديكتاتورية إلى التحاور الذى هو السبيل الحضارى، وتوسلت بأسلوب النضال المنتصر ابدا، اسلوب التطور الديمقراطى السلمى (سلمية سلمية)، وتعددت الائتلافات والعين اليقظة على التوحيد والعمل الجبهوى المشترك الذى يعبر عن وحدة الشعب. تعدد بغير حدود ولاقيود؟ أوسع مساحات المشترك الوطنى العام، وحدة تحمى التعدد وتعدد يرفد الوحدة بروافد القوة والاستمرار، والمشهود الآن ان هذه الائتلافات الجمة تتجه إلى الأوعية العامة، فتقيم احزابا، وتتجه الاحزاب إلى مواثيق، والغاية الوعاء التنظيمى الاعم، الجبهة الديمقراطية المتحدة، اداة مجتمع التوافق الوطنى، من حكم الفرد المطلق إلى حكم الشعب، فى مصر المجتمع المصرى الديمقراطى المنتج، أما الوقفة الثانية فمدارها ان الجيل المصرى الراهن الثائر يؤسس على ان مصر فى قلب العالم فيمتد نظره وفعله إلى الدوائر الاقليمية والعالمية، وعلى الرغم من الاثقال الباهظة فى التأسيس الثورى الداخلى، فإن الراصد يرى وفودا مصرية إلى حوض النيل، واخرى إلى إيران وإلى تركيا وتلقى بظلالها النبيلة على الفصائل الفلسطينية للمصالحة وفتح المنافذ، بل ان هذا الراصد قد سجل منذ سنوات، قبل التنظيمات، آحادا من الشبان والشابات المصريين يلفتون النظر فى المؤتمرات العالمية الدورية، الثورة المصرية الراهنة جزء فاعل من الحركة الشعبية الديمقراطية العالمية، وأما الوقفة الثالثة فتنص نصا على ان الجيل المصرى الراهن الثائر قد اتصل بعمق بثورة الاتصال والتوصيل، وسيطر على تقنياتها، فتمكن من توظيف القدرات الذهنية فى توسيع مجال التلاحم والتوجيه والحشد، وهى الامكانات اللازمة الحاسمة فى العمل الجماعى. لقد استأنف المصريون مبادرتهم فى التاريخ الانسانى. ونهضت النهضة المصرية. المزيد من مقالات عبد المنعم تليمة