لفت انتباهى فى الفترة الأخيرة قلق بعض المصريين وتململهم من تحويل قضايا الفساد وقتل المتظاهرين إلى القضاء العادي، بحجة أن إجراءات القضاء العادى تأخذ وقتا طويلا حتى صدور الحكم على الفاسدين القتلة، بينما الناس تريد سرعة البت فى هذه القضايا، بل وطالب البعض بتحويلها إلى القضاء العسكرى أسوة بقضايا البلطجة ومخالفة قوانين حظر التجول حتى تتم المحاسبة الفورية وتصدر الأحكام الرادعة على هؤلاء. والحقيقة الأولى التى أود لفت أنظار هؤلاء إليها، هى أن هذه المحاكمات التى تتم بإشراف وزارة العدل وأمام القضاء العادى وبدون أى إجراءات استثنائية عاجلة هو ما ميز الثورة المصرية المعاصرة عن غيرها من ثورات العصر الحديث التى تميزت بالدموية وسحق رموز الأنظمة السابقة بصورة فيها الكثير من الغل والتشفي. إن ثورة الخامس والعشرين من يناير تميزت منذ البداية بشعارها الثابت «سلمية سلمية»، والمطالبة بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية بالذات وهو ما تنفذه الآن مع خصومها الذين ثارت على ظلمهم وجبروتهم واستبدادهم ونهبهم لثروات بلدهم. إنها تحاكمهم بالقانون وتحت منصة القضاء العادل. وهذا مما يزيد من عظمة هذه الثورة وتفردها، ويبرهن على عبقرية الشخصية المصرية التى تميزت بالاعتدال طوال تاريخها، رغم ما يمارس عليها من ظلم واضطهاد من قبل حكامها فى الكثير من فترات تاريخها القديم والحديث. ولعل فى هذا الذى يحدث الآن فى مصر ما يتسق تماما مع ما كان يحدث فى ماضيها السحيق والعريق والعظيم فى آن معا. فقد كان جوهر الحضارة المصرية القديمة هو «الماعت » أى العدالة والنظام، وتلك الكلمة الآثرة الساحرة «الماعت» كانت تمثل خلاصة التجربة المصرية الطويلة فى بناء الحياة السياسية والاقتصادية المستقرة لآلاف السنين، اتفق عليها الجميع حكاما ومحكومين ، مجدها الملوك والوزراء فى خطابهم السياسى وحرصوا على غرسها وتطبيقها فى كل ربوع البلاد وتغنى بها المفكرون والحكماء فى أدبياتهم، وعبر عنها الشعراء والفنانون فى قصائدهم ورسوماتهم، وعاشها الناس معهم حقيقة واقعة، فكانت حياتهم المستقرة وانجازاتهم العبقرية فى كل مجالات الحياة، تلك الإنجازات التى لا تزال شاهدة حتى اليوم على ما كان من حضارة عظيمة وعلى ما كان يحظى به الإنسان الذى بناها من رعاية وعناية ورخاء. ولعل قارئنا المعاصر يتساءل مندهشا : ما الدليل على ما تقول ؟!! ألم يكن الفرعون هو الحاكم بأمره المستبد بشعبه!! ألم تبني، الحضارة والمدنية المصرية القديمة على قهر إرادة الشعب لصالح إرادة الحاكم الإله وتلبية كل مطالبه مهما كانت ظالمة وأنانية ؟! ولهذا المتسائل المندهش أقول: إن الحضارات العظيمة لا يبنيها القهر والاستبداد، بل يبنيها الحب والتضامن والإبداع فى ظل العدالة وسيادة القانون التى يشعر بها الجميع حكاما ومحكومين، لقد كان الملك المصرى القديم ينظر إليه بحب واحترام يصل إلى حد القداسة أحيانا والتأليه أحيانا أخري، لكن ذلك لم يمنع الإنسان المصرى المحب لملكه والمتعبد فى محرابه من أن يطالبه بالعدالة إذا ما حاد عن جادة الصواب، أو إذا شعر بأنه ظلم منه أو من أحد أفراد حاشيته ولنا فى قصة القروى الفصيح أبلغ دلالة على ذلك، فضلا عن أن لفظة «الفرعون» التى قرناها بالاستبداد والظلم لم تكن تعنى فى اللغة المصرية القديمة أكثر من الإشارة إلى الملك ساكن القصر، فهى تعنى صاحب القصر أو ساكنه، ولقد كان الملك المصرى القديم أحرص ما يكون بين شعبه على تحقيق العدالة والنظام (الماعت) حتى يشعر الجميع بالاستقرار وينعموا بخيرات بلدهم فى وئام وحب . والخلاصة أن مصر القديمة كانت دولة يحكمها ملك يراعى القانون واستقلال القضاء، ويحرص على تطبيق العدالة فى كل الأحوال،وأن الشعب المصرى بصفوته ورعاعه كان شعبا يعى حقوقه، ويطالب بها دون خشية من أحد، إنه شعب بدت عبقريته فى أنه بنى مدنيته ودولته على حكمة واحدة لخصت كل ما تطمح إليه كل شعوب الدنيا قديمها وحديثها، إنها كلمة «الماعت» التى بلورت كيف يكون النظام والإستقرار مرتبطين بتحقيق العدالة وسيادة القانون. إذن ليس غريبا على المصريين أن يقوموا بثورتهم البيضاء كما قام بها أجدادهم قديما ثورة شاملة نعم ! لكنها ثورة حريصة على إقامة العدل ودولة القانون حتى مع حكامها الظلمة والمفسدين، حقا لا يقيم الدول الكبرى إلا شعوب عظيمة قادرة على كبح جماح شهوة الانتقام والتشفى لصالح إقامة العدل وفق القانون وأمام القضاء العادي، وصبرا آل الشهداء، وصبرا أهل مصر العظام، فإن دولة الظلم بادت، وانتهت ودولة العدل ورد الحقوق لأصحابها دانت واقتربت مواسم جنى الحصاد وقطف الثمار. المزيد من مقالات د. مصطفي النشار