لعل من أكثر التعبيرات استخداما منذ الأيام الأولي لثورة يناير1102 تعبير الحوار, خاصة الحوار مع ممثلي السلطة, حيث شاهدنا موائد وجلسات ومؤتمرات الحوار لاتتوقف منذ الحوار مع السيد عمر سليمان ثم مع السيد الفريق أحمد شفيق إلي جلسات الحوار المتنوعة مع المجلس الأعلي للقوات المسلحة إلي جلسات مؤتمر الحوار القومي ومؤتمر الوفاق الوطني. وتوازت مع تلك الحوارات سلسلة من اللقاءات بين ممثلي أجهزة وزارة الداخلية وشرائح متنوعة من ا لناشطين السياسيين والمثقفين علي مختلف توجهاتهم. الحوار وسيلة لتفاعل الآراء والأفكار بين طرفين أو أكثر, وبصرف النظر عن نتيجته فإن إفصاح كل طرف عن آرائه يعد شرطا لازما لبداية حوار حقيقي. ونظرا لأن تعبير الحوار قد اكتسب تاريخيا سمعة إيجابية تجعله لصيقا بمفاهيم المرونة والانفتاح الفكري والحرية والديمقراطية وبحيث يصبح رفضه أو الانسحاب منه رذيلة منفرة, فقد اصبحت ممارسة الحوار مغرية حتي لمن لايطيقون مرونة أو انفتاحا ولمن لايعرف عنهم ميلا لحرية أو تحرر, ولذلك فإنهم يلجأون إلي اصطناع مواقف تتخذ شكل الحوار دون ان تتوافر لها أبسط شروطه فكثيرا ما نشهد في حياتنا اليومية العديد من الأحاديث المطولة بين أب متسلط وابنائه, أو بين مسئول ديكتاتور ومعاونيه أو مرءوسيه, أو بين رموز الاحتلال وممثلي الشعب, وقد تبدو تلك الأحاديث كما لو كانت حوارا حقيقيا حيث الأطراف جميعا تتبادل الحديث والإنصات ولكنها في حقيقة الأمر لا تتحاور بالفعل, بل يقوم الطرف الأقوي بإملاء أوامره علي الطرف الأضعف, ولا تكون الأحاديث في هذه الحالة إلا نوعا من محاولة إكساب ذلك الإملاء الكريه نكهة الحوار المقبولة والمحببة مع الحرص دائما علي تذكير الطرف الأضعف بمحدودية قدراته وبأن مجرد القبول بالحديث معه يعد مكسبا ينبغي الحفاظ عليه. وثمة نوع آخر مستحدث ربما افرزته تلك العلاقة الفريدة بين السلطة وثوار يناير: إنه استبدال الإصغاء بالحوار بحيث يبدو إنصات ممثلي السلطة لما يسمعون كما لو كان حوارا حقيقيا. لقد تابعت العديد من تلك الحوارات بل شاركت في بعضها ولايستطيع منصف أن ينكر ما توافر لدي منظميها والداعين إليها من نبل الغاية وقد تدفقت في تلك اللقاءات آلاف المقترحات ووجهات النظر وكان ممثلوا السلطة يصغون باحترام بالغ لكل المتحدثين مهما غالوا في حديثهم ولايتدخلون مستوضحين إلا نادرا ثم ينفض اللقاء ليتبعه لقاء آخر وهكذا وكان يغلب علي تلك الأحاديث أن الطرف المتلقي أو المستمع لايبدي رأيا سوي الترحيب بالاستماع والسعي إلي الاستزادة فيكون اشبه بمن يستمع إلي مطرب أو خطيب حيث تكفي هزة رأس تشجع علي الاستمرار دون ان تعني بالضرورة موافقة علي ما يقال أو إيماءة متجهمة توحي بامتعاض دون ان تتحول إلي رفض صريح. وليس من شك في أن مثل تلك الأحاديث قد لاتخلو من فائدة لمن يشارك فيها فمن يتحدث دون ان يعترضه أحد قد يتوهم انه مشارك في حوار حقيقي فينخفض توتره ويشعر كما لو كان لكلماته قيمة, ومن ناحية أخري فإن المستمع قد يتوهم أنه يمارس ديمقراطية غير مسبوقة تثبت بالفعل سعة صدره وتقبله للنقد وانفتاحه علي مختلف الآراء. ولقد كان ممكنا أن تنتهي ظاهرة الحشود المليونية في11 فبراير يوم تنحي الرئيس السابق لو توافرت لتلك اللقاءات بين الثوار والسلطة الجديدة شروط الحوارالحقيقي بحيث يتم من خلالها تفاعل الآراء وليس مجرد طرحها من طرف واحد, وبحيث يحصل الثوار من السلطة علي تقييمها لمطالبهم: هذا المطلب سننفذه فورا, أما هذا المطلب فيحتاج إلي وقت للأسباب التالية ويدور الحوار آنذاك حول مبررات التأجيل ومدته. ولكن استمرار اللقاءات بالصورة التي هي عليها كان لابد أن يؤدي إلي عودة الحشود من جديد باعتبارها تعبيرا معلنا صاخبا عن مطالب تكرر طرحها بهدوء ونظام خلال تلك ا للقاءات التي اتخذت سمت الحوار, دون أن تجد إجابة شافية توضح مبررات تأجيل تنفيذها وغني عن البيان أنه حين تعلن السلطة استجابتها لبعض المطالب القديمة والمتكررة وهو أمر قد يحسب لها فإنها تعلن بذلك عن فشل تلك ا للقاءات الهادئة المنظمة التي افتقدت الشرط الأساسي لتحويلها إلي حوار حقيقي تكرس اسلوب الحشود المليونية كوسيلة معتمدة للاستجابة للمطالب. وفي مقابل ذلك النوع من الحوارات الزائفة كان ثمة حوار حقيقي يجري بين ثوار يناير بمختلف اطيافهم حول الإعداد المليونية, أو حشد8 يوليو1102, كان حوارا حقيقيا بمعني أن طرفا لم يتمسك تمسكا جامدا بشعار يراه الأهم, بل تم التنازل عن العديد من الشعارات والتوافق علي شعار واحد الثورة أولا مع القبول بالاختلاف حول الاكتفاء بالتظاهرة أو الاستمرار في الاعتصام وتبني الجميع عددا محدودا وواقعيا من المطالب التي خلت من أي مطلب جديد لم يسبق طرحه. تري ألم يحن الوقت لنتعلم جميعا من ثوار يناير كيف يكون الحوار الحقيقي؟ ولتتعلم السلطة أن العدل هو السبيل الأوحد للاستقرار والتنمية؟ المزيد من مقالات د. قدري حفني