يجرى الآن حوار اجتماعى حول مستقبل النقابات العمالية فى مصر بين ثلاثة أطراف هى العمال وأصحاب الأعمال والحكومة ويدور النقاش أساساً حول مشروع قانون الحريات النقابية الذى أعده الدكتور أحمد حسن البرعى وزير القوى العاملة والذى يعالج فيه عيوب القانون الحالى للنقابات العمالية رقم 35 لسنة 1976 وتعديلاته ، والذى يتضمن العديد من مظاهر انتهاك الحريات النقابية ويتعارض مع المعايير الدولية للحريات النقابية كما وردت فى الاتفاقيات الدولية التى وقعت عليها الحكومة المصرية وتم التصديق عليها طبقا للقواعد الدستورية فأصبحت فى منزلة القوانين المصرية التى تلتزم بتنفيذها الحكومة ، ومع ذلك لم تحترم هذه الحريات فى القوانين المنظمة للنقابات العمالية الأمر الذى دفع بمنظمة العمل الدولية إلى إدراج مصر فى القائمة السوداء التى تضم الدول التى تنتهك الحريات النقابية والمعروفة رسمياً باسم قائمة الحالات الفردية. والحوار الذى يجرى حول مستقبل النقابات العمالية فى مصر ليس بعيداً عما شهدته مصر بعد ثورة 25 يناير من تصاعد موجة الاضرابات العمالية المطلبية وهى امتداد لموجة أخرى من الاضرابات العمالية شهدتها البلاد فى الفترة من 2004 إلى 2010 والتى شهدت أكثر من ألف إضراب واعتصام واحتجاج عمالى تدور كلها حول مطالب عادلة للعمال تتعلق بالأجور وساعات العمل والحق فى الرعاية الصحية وغيرها من المسائل التى تشملها علاقات العمل . وقد دعا الكثيرون إلى إيقاف هذه الإضرابات حرصاً على استقرار المجتمع وانتظام العملية الإنتاجية دون أن يتفهموا الأسباب الحقيقية لهذه الإضرابات وهى نتيجة لإهمال حقوق العمال لأكثر من أربعين سنة حيث تجمدت أجورهم بينما زادت أسعار السلع والخدمات بدرجة رهيبة لم يعودوا قادرين على مواجهة أعبائها بأجورهم المتواضعة ، وفى نفس الوقت فإن هؤلاء العمال حرموا من أن تساندهم النقابات الرسمية التى تشكلت فى إطار القانون رقم 35 والتى تعبر عن رأى نظام الحكم ومواقفه وهى فى نفس الوقت مواقف كبار الرأسماليين أكثر من تعبيرها عن مصالح العمال وقد أدانت قيادات النقابات الرسمية كل الإضرابات العمالية وفى المقابل كان العمال المضربون يعلنون سحب الثقة من اللجان النقابية الرسمية فى منشآتهم ، ووصل الأمر بالعمال إلى تشكيل نقابات مستقلة ابتداء من سنة 2008 بنقابة موظفى الضرائب العقارية والتى وصل عددها الآن إلى ما يقرب من مائة وخمسين نقابة مستقلة . ولم تكن الإضرابات العمالية هى التى تهدد استقرار المجتمع بل يهدده أساساً إهمال حقوق العمال وغياب التنظيم النقابى الذى يدافع عن مصالحهم من خلال المفاوضة باسمهم مع أصحاب الأعمال والوصول إلى اتفاقات تحقق مصالح الطرفين وبذلك تستقر العملية الإنتاجية ولا يوجد ما يهدد استقرار المجتمع . ينطلق مشروع قانون الحريات النقابية الذى يدور حوله الحوار الآن من معالجة ملاحظات منظمة العمل الدولية حول مظاهر انتهاك الحريات النقابية فى مصر طبقاً لقانون النقابات الحالى والتى دفعتها إلى إدراج مصر فى القائمة السوداء . وقد أعد هذه الملاحظات خبراء المنظمة وتتلخص أهمها فى : - تقييد حرية العمال فى تكوين نقاباتهم خارج نطاق النقابات العامة الرسمية وتقييد حق العامل فى الانضمام إلى النقابة التى يختارها . حرمان العمال من الانضمام إلى أكثر من نقابة للدفاع عن مصالحهم إذا كانوا يعملون فى أكثر من مهنة . التدخل الحكومى فى الشئون الداخلية للنقابات وانتهاك حق العمال فى وضع لوائح النقابة ونظم العمل بها وتسييرها وانتخاب ممثليهم فيها بحرية . التدخل فى الشئون المالية للنقابات وفرض أسلوب موحد عليها فى كيفية التصرف فى مواردها. إعطاء النقابة العامة سلطة مراقبة أحوال اللجان النقابية وضرورة موافقتها على الصناديق التى تنشئها هذه اللجان . تكريس تبعية النقابات للحكومة من خلال إعطاء وزير القوى العاملة صلاحيات متعددة بالنسبة للأمور الداخلية للنقابة . حل مجلس إدارة اللجنة النقابية إذا شاركت فى إضراب عمالى رغم أن الإضرابات العمالية حق أساسى للعمل فى ظل الاقتصاد الحر لأنه خط الدفاع الأساسى للعمال فى مقابل حرية صاحب العمل فى إغلاق المنشأة أو تخفيض الإنتاج أو فصل العمال . ولم يكن غريباً أن ينجح الأطراف الثلاثة العمال وأصحاب العمل والحكومة فى تحقيق درجة كبيرة من التوافق حول مشروع القانون لأنه بالفعل يحقق مصالح الجميع خاصة أن الاتفاقيات حول التجارة الحرة تفرض قيوداً على التعامل تجارياً مع أصحاب الأعمال فى الدول التى تنتهك الحريات النقابية ومن مصلحتهم أن يصدر قانون جديد يوفر الحريات النقابية لعمال مصر وفق المعايير الدولية ، وفى هذا الصدد فإننا نكتفى هنا بالإشارة إلى أهم مواد هذا القانون : اكتساب النقابات العمالية الشخصية الاعتبارية بمجرد إيداع أوراق التأسيس دون الحاجة إلى موافقة أية جهة إدارية . حق العمال فى كل القطاعات بلا استثناء فى تكوين النقابات وكان ممنوعاً من قبل إنشاء نقابات فى قطاع الاستثمار والإنتاج الحربى و«العمال المؤقتون» وأصحاب المعاشات . عدم حرمان أى عامل من حقه فى الإشتراك فى تأسيس النقابة أو الإنضمام إليها وعدم إكراهه على الانضمام إلى نقابة دون إرادته أو الانسحاب منها . حق النقابات فى وضع لوائحها وفى انتخاب ممثليها بحرية كاملة ، وفى تنظيم إدارتها، وفى إعداد برامجها ، وتمتنع السلطات العامة عن أى تدخل من شأنه أن يقيد هذا الحق . حق النقابات فى ممارسة جميع الأنشطة التى تحقق أغراضها فى الدفاع عن حقوق أعضائها ورعاية مصالحهم ، والعمل على تحسين شروط وظروف العمل . وهناك حقوق أخرى عديدة يعترف بها القانون للعمال ونقاباتهم .ومن اللافت للنظر أن القيادات الحالية للاتحاد العام لنقابات العمال يعارضون هذا القانون ويتهمون وزير القوى العاملة بالعمل على تفتيت الحركة النقابية المصرية بالسماح بالتعددية ويرفضون المشاركة فى هذا الحوار الاجتماعى رغم دعوتهم إليه وهم بذلك يفوتون على أنفسهم فرصة تعويض ما فاتهم عندما قبلوا الأوضاع غير الديمقراطية للنقابات وعندما وافقوا على انتهاك الحريات النقابية فى مصر خاصة التعديلات التى أدخلها القانون رقم 12 لسنة 1995 وفى اعتقادى أن القيادات العمالية للنقابات الرسمية وفى الإتحاد العام عليهم أن يتداركوا هذا الموقف فعلاً وأن يشاركوا فى إصدار القانون الجديد وأن يسهموا فى دعم وحدة الحركة النقابية المصرية بإزاحة كل العقبات التى تحول دون تمتع عمال مصر بحرياتهم النقابية ، هناك الكثير من الشرفاء فى قيادة النقابات الرسمية عليهم أن يحسموا ترددهم وأن ينضموا فوراً إلى هذه العملية ففى هذا ضمان لمصالح العمال واستقرار المجتمع وهو أيضاً سبيلهم للقيام بدور أساسى فى المستقبل . علينا جميعاً أن ندرك أن العجلة قد دارت بعد قيام الثورة : ولن نعود أبداً إلى الوراء . المزيد من مقالات عبدالغفار شكر