لا خلاف بين علماء السياسة المقارنة علي أن النظم السياسية السلطوية علي عكس النظم السياسية الليبرالية تتسم بالجمود. وهذا الجمود له أنماط شتي, أهمها جميعا ما يمكن تسميته الجمود المؤسسي, وأخطرها علي الإطلاق هو الجمود الإدراكي للنخب السياسية الحاكمة, والذي يجعلها تعجز عن قراءة الواقع الاجتماعي المتغير, مما يجعلها تفاجأ مفاجأة العمر حين تهب الانتفاضات الجماهيرية, فتسقطها من عليائها وتدفنها في التراب. ونريد أن نناقش موضوع الجمود المؤسسي ليس علي أساس نظري مجرد, وإنما من واقع كل من التجربة التونسية والمصرية. بالنسبة للتجربة التونسية تحديدا, فإن النظام السياسي التونسي الذي أشرف علي وضع أركانه الزعيم الحبيب بورقيبة الذي حقق الاستقلال لبلده, قام أساسا علي عمود واحد هو الحزب الدستوري الذي هيمن علي مجمل الفضاء السياسي التونسي. واستطاع هذا الحزب والذي كانت له بالفعل في البداية شعبية جماهيرية, أن يمنع عمل التعددية السياسية الحزبية, وأن يوقف علي مبدأ تداول السلطة. كان يشكل الوزارات ويقيلها بغير رابط أو ضابط, كما أنه أوقف أو فلنقل جمد عمل جميع مؤسسات الدولة, وجعلها تعمل بتوجيهاته هو فقط لتنفيذ سياساته المختلفة, والتي اتسمت في السنوات الأخيرة من ولايته بالتذبذب الشديد, والذي نجم عن كبر سنه وعدم سيطرته علي عملية اتخاذ القرار والتي انتقلت إلي حاشيته, والتي كون أعضاؤها مراكز قوي غرقت في بحور الفساد, مما أثار السخط الشعبي علي رئيس الجمهورية ذاته وعلي الحزب الدستوري الذي يرأسه باعتباره مسئولا عن تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية, ومن المعروف ان الرئيس بن علي والذي عينه بورقيبة وزيرا للداخلية, قام بانقلاب عليه ونصب نفسه رئيسا للجمهورية. غير أنه وسع من سلطات رئيس الجمهورية بما يتجاوز نصوص الدستور ذاتها, والتي حاول أن يدخل عليها تعديلات جزئية تبيح التعددية الحزبية ليضفي طابعا ديمقراطيا علي النظام السياسي التونسي خضوعا لضغوط الخارج ومطال الداخل غير أن النظام التونسي الذي اتسم بالجمود السلطوي والذي يتمثل في احتكار اتخاذ القرارات وتفريغ المؤسسات الدستورية من مضمونها وتحويل المجالس النيابية والشعبية إلي أدوات لخدمة الرئيس وحاشيته من رجال السياسة والأعمال الفاسدين, أصابه كغيره من النظم السلطوية العربية آفة الجمود الإدراكي للنخبة السياسية الحاكمة. فقد ظن هؤلاء وعلي رأسهم بن علي نفسه أنهم يستطيعون أن يسيروا في طريق احتكار السلطة من ناحية والفساد المعمم الذي لاحدود له إلي مالا نهاية! وإذا بحادثة صغيرة حقا في بلدة تونسية صغيرة, تتمثل في إهانة شاب تونسي مكافح علي يد ضابط شرطة, وهو بوعزيزي الذي انتحر احتجاجا علي كرامته المهدورة, تتحول إلي فتيل ملتهب أشعل الثورة والتي قامت في وقت واحد في عديد من البلاد التونسية. وفي مسلسل سريع للغاية اضطر بن علي إلي الهروب وأسرته من البلاد, وقام حكم جديد يحاول تحقيق أهداف الثورة في سياق من السيولة الثورية الشديدة, وهذه السيولة منعت حتي الان من إقامة نظام سياسي جديد واضح الملامح محدد القسمات. وإذا ألقينا النظر الآن الي النظام السياسي المصري, فمن الغريب أن نجد تشابهات شديدة بينه وبين النظام السياسي التونسي. وذلك لأن كلا من بن علي ومبارك حكما لمدة ثلاثين عاما متصلة تقريبا. والأغرب من ذلك أن بن علي ورث نظاما سلطويا من بورقيبة ولكنه زاد من سلطويته وجعله نظاما ديكتاتوريا مكتمل البنيان, تلغي فيه تماما الحريات السياسية ويتم فيه خرق حقوق الانسان بصورة منهجية, مما أثار سخط المؤسسات الحقوقية التونسية والعالمية علي السواء. وإذا دققنا في ملامح الصورة المقارنة لوجدنا أن مبارك ورث نظاما سلطويا حقا من الرئيس السادات, ولكنه كان يتمتع بحد أدني من التعددية السياسية الحزبية, خطط لها السادات لتكون أساسا لتحويل الاقتصاد المصري من الاشتراكية الي الرأسمالية ويحظي نظامه بقبول دولي. غير أن الرئيس السابق مبارك علي غرار بن علي تماما حول النظام السياسي السلطوي الذي ورثه عن الرئيس السادات الي نظام ديكتاتوري مكتمل البنيان! فقد ألغي الحريات السياسية تماما, وهمش كل الأحزاب السياسية المعارضة, وحكم ثلاثين عاما في ظل قانون الطوارئ الذي سمح له باعتقال المئات من خصومه السياسيين, وطبق سياسة قمعية تعتمد أساسا علي قوي الأمن, التي حولها لتكون حارسة له وللنظام وليس للشعب. كما أنه أحاط نفسه كما فعل تماما بن علي بمجموعة واسعة من رجال الأعمال الفاسدين, الذين قاموا تحت إشرافه المباشر بنهب ثروات مصر وخصوصا في مجال تملك أراضي الدولة بسعر زهيد, والمتاجرة فيها وجني أرباح خيالية قدرت بالمليارات. كما أنه تماما كما فعل بن علي حول النظام المصري إلي نظام يتسم بالجمود السلطوي, والذي تمثل في تفريغ المجالس النيابية كمجلس الشعب ومجلس الشوري من مضامينها الدستورية, وتحويلها الي أدوات لتمرير السياسات المنحرفة للنظام, والتي ما وضعت أساسا إلا لخدمة رجال الأعمال التابعين له, وعلي حساب ملايين المصريين من طبقات الشعب المختلفة. وقد أدي احتكار السلطة للرئيس السابق مبارك فترة ثلاثين عاما كاملة الي إصابته هو وأركان نظامه بآفة الجمود الإدراكي والذي جعله يعجز عن قراءة الواقع الاجتماعي الذي كان يزخر بعوامل السخط الشعبي الواسع المدي, والذي أدي من بعد إلي ثورة25 يناير. ومما يدل علي صدق مقولة الجمود الإدراكي الذي أودي بالنخب السياسية العربية الحاكمة, أنه بالنسبة للرئيس السابق مبارك وابتداء من عام2005 أصبح يسب علانية في المظاهرات الشعبية, وارتفعت الشعارات لإسقاطه, كما أن الاحتجاجات الجماهيرية قامت بين العمال والموظفين ومختلف فئات الشعب الا انه لم يستطع ان يفهم دلالاتها في الوقت المناسب. لم يدرك مبارك ولا قادة النظام نتيجة لغرقهم في احتكار السلطة من ناحية والفساد من ناحية أخري أن هذا النقد السياسي العنيف الذي مارسه الناشطون السياسيون والكتاب والمثقفون بالاضافة الي الاحتجاجات الجماهيرية انما هي نذر الثورة القادمة. وهكذا قامت ثورة25 يناير, وانتقلنا بذلك من حالة الجمود السلطوية الي حالة السيولة الثورية, التي شاهدنا علاماتها في ميدان التحرير في الآونة الأخيرة. ويبقي السؤال كيف ننتقل من السيولة الثورية الي الاستقرار السياسي في ظل رؤية استراتيجية لبناء مصر الديمقراطية, التي تقوم علي تحقيق العدالة الاجتماعية للناس, وترعي الكرامة الإنسانية للمواطنين. المزيد من مقالات السيد يسين