يعد إصلاح الدعم والتحويلات, مدخلا رئيسيا لإصلاح الموازنة العامة للدولة في مصر, نظرا لضخامة هذا البند في الإنفاق العام وتوجيه غالبيته الساحقة للطبقة الرأسمالية عموما والشريحة العليا منها بصفة خاصة, بصورة متحيزة وبعيدة عن المنطق الاقتصادي والأخلاقي. وكان المأمول بعد أن قام الشعب المصري بثورة عملاقة ودفع ثمنا غاليا من دماء أبنائه, أن يتم إصلاح تلك التشوهات وأن يتم توجيه مخصصات الدعم والتحويلات للفقراء والمحتاجين ومحدودي الدخل والعاطلين. لكن الموازنة استمرت علي نفس المنوال القديم بلا تغيير, ليتسبب الدعم الفاسد وغير المنطقي المقدم للرأسمالية المحلية والأجنبية في عجز ضخم بالموازنة العامة للدولة بلغ 170.5 مليار جنيه في القراءة الأولي لها, وتراجع بعد ضغوط المجلس العسكري إلي 143.3 مليار جنيه في الصيغة النهائية لها, وستقترض الحكومة من أجل سد هذا العجز, لتكبل الأجيال والحكومات القادمة بالمزيد من الديون المحلية والأجنبية, علما بأن الدين العام المحلي بلغ نحو 962.3 مليار جنيه في أول يناير 2011, ومن المقدر له مبدئيا أن يتجاوز 1035 مليار جنيه في نهاية يونيو الحالي. وبلغ الدين العام الخارجي نحو 35 مليار دولار في بداية العام 2011, وبلغت مدفوعات خدمة هذا الدين الداخلي والخارجي نحو 210.9 مليار جنيه, عبارة عن 110.8 مليار فوائد, ونحو 100.1 مليار جنيه سداد لأصول الديون. وقد بلغت مخصصات الدعم والتحويلات في الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2011/2012, نحو 166.2 مليار جنيه. وقد واصل وزير المالية ومستشاريه, وهم أعضاء في الحزب الوطني المنحل الذي كانوا ينتمون إليه حتي حله... واصلوا توجيه الغالبية الساحقة من مخصصات الدعم والتحويلات, إلي الطبقة العليا, فتم تخصيص 99 مليار جنيه كدعم للمواد البترولية, بزيادة نسبتها نحو 46% عن المخصصات المتعلقة بها في الموازنة السابقة. وهذا الدعم, إضافة إلي دعم الكهرباء البالغ 6.3 مليار جنيه, يذهب الجانب الأكبر منه إلي شركات تبيع إنتاجها بالأسعار العالمية وتحقق أرباحا احتكارية استغلالية من دم الشعب المصري, مثل شركات الحديد والأسمنت والأسمدة والألومنيوم وغيرها من الشركات, فضلا عن أن قطاع الأسمنت الضخم في مصر أصبح مملوكا بالأساس للأجانب, بما يعني أن وزارة المالية مستمرة في تقديم الدعم من أموال الشعب المصري الفقير إلي شركات أجنبية تستغله وتمتص دماءه, وكان الأولي بالحكومة أن تقوم بإلغاء كامل لدعم مختلف مواد الطاقة والكهرباء الذي يقدم لكل الشركات التي تبيع إنتاجها بالأسعار العالمية أو بأعلي منها وعلي رأسها شركات الأسمنت, علي أن يستمر الدعم الذي يحصل عليه المواطنون علي الغاز والبوتجاز والبنزين 80, و90, والكيروسين للاستخدامات المنزلية. وأن تخصص عشرات المليارات التي سيتم توفيرها من هذا الإلغاء في إصلاح الموازنة العامة للدولة, عبر تمويل بناء مشروعات صناعية وزراعية وخدمية تساعد علي استنهاض النمو الاقتصادي وايجاد الوظائف الحقيقية للعاطلين الذين ينبغي العمل علي تشغيلهم في وظائف حقيقية وليس تكديسهم كبطالة مقنعة في جهاز حكومي مكتظ أصلا بالبطالة المقنعة. أما دعم الصادرات فقد تم تخفيضه إلي 2.5 مليار جنيه في الموازنة الجديدة, مقارنة ب4 مليارات في موازنة عام 2010/2011, وهو دعم كان مجالا لتوزيع فاسد وتلاعب, ويستحق الإلغاء تماما, وليس مجرد التخفيض. وهناك6.7 مليار جنيه تحت مسمي منح جارية لجهات الحكومة العامة, ولا يوجد أي تفصيل بشأنها, وهي في حاجة لتوضيح, حتي لا تذهب بنا الظنون إلي أنها مخصصة لاستخدامات غير ملائمة! ورغم أن ملف الوزارة حول الموازنة الجديدة, يشير في بدايته إلي رفع مخصصات معاشات الضمان الاجتماعي من 1.6 مليار جنيه إلي 3.2 مليار جنيه, إلا أن الموازنة المفصلة تشير إلي أنه يبلغ 2.4 مليار جنيه فقط, استكمالا للتخبط في الإحصاءات في هذه الموازنة التي تعكس تدني كفاءة القائمين علي إعدادها. أما بالنسبة لدعم إسكان محدودي الدخل فقد تم تخصيص 1.5 مليار جنيه له في الموازنة الجديدة, بدلا من 1 مليار في موازنة 2010/2011, ونحو 1.3 مليار جنيه في موازنة 2009/.2010 ولم تقل لنا وزارة المالية أنها غيرت النظم التي يتم تقديم هذا الدعم من خلالها والتي أفضت طوال الفترة الماضية إلي تقديمه للرأسماليين من أصحاب الشركات الخاصة التي تنفذ المشروع وليس للمستفيدين الذين هم أيضا ليسوا من محدودي الدخل أصلا. أما إعانة البطالة فقد صرفت وزارة المالية النظر عنها, ولم يرد لها ذكر في الموازنة, رغم أن مسئولية الحكومة عن تعطل مواطنيها سواء لتقصيرها في إنشاء مشروعات جديدة تستوعبهم, أو تقصيرها في تحسين بيئة الأعمال بما يساعد علي خلق الوظائف...رغم أن هذه المسئولية تفرض علي الحكومة ضرورة تقديم إعانة بطالة للعاطلين علي غرار ما تفعله الدول الرأسمالية المتقدمة والعديد من الدول الرأسمالية النامية مثل الهند التي يقل متوسط نصيب الفرد من الدخل فيها عن نصف نظيره في مصر, إلا أن الحكومة المعنية بمصالح الرأسمالية الكبيرة أساسا, لم تهتم بهذا الأمر, وتركت الملايين من العاطلين للعوز والبؤس والعيش عالة علي أسرهم, ليساهموا في إفقارها بدلا من المساهمة في رفع مستواها المعيشي عبر العمل وكسب العيش بكرامة. كما لم تستمع الحكومة لكل ما نطالب به من تأسيس وتمويل كبير لحضانة قومية وحضانات فرعية في كل المحافظات والمراكز والقري لرعاية المشروعات الصغيرة لتحويل مصر لورشة عمل تحقق انتفاضة اقتصادية وتوجد جيلا جديدا من أصحاب الأعمال الذين تنهض نشاطاتهم علي العلم والعمل والكفاءة ليفتحوا لمصر بابا عظيما للتطور الاقتصادي, بدلا من حيتان الفساد الذين نهبوا المال العام وأغرقوا مصر في دوامة من الركود.