هذا الرجل عاشق للسفر والترحال.. وعشقه لاينبع فقط من حبه للتجوال والسياحة, بل حبه للبشر والرغبة في الاقتراب من عوالمهم المختلفة والتعرف علي أنماط حياتهم وعاداتهم وسلوكياتهم.. الولع بالمغامرة والمخاطرة والاكتشاف جزء من شخصيته الهادئة والمتأملة.. اختار الجنوب والشرق ليبحر في شطآنهما وضفافهما.. انحاز لتلك البلدان التي لاتطأها الأقدام كثيرا.. أدار ظهره للغرب واتجه جنوب إفريقيا وآسيا وجنوب شرق أوروبا حيث دفء الطبيعة والبشر.. إنه الدكتور محمد المخزنجي الذي هجر مهنة الطب مع سبق الإصرار والترصد وعمل بالصحافة وبرع في تخصص الاستطلاعات بمجلة العربي الكويتية, فكان يسافر هنا وهناك ويعود برؤيته الخاصة التي كتبها من معايشته للبلد التي قام بزيارته.. لم تكن مجرد رحلات صحفية يقوم بها, بل كانت أقرب إلي الحكايات الأدبية التي يغمرها برؤاه وملاحظاته ومشاعره.. هذه الحكايات لايمكن أن ندرجها تحت لافتة أدب الرحلات التقليدي.. فهي ليست كذلك.. ولايمكن أيضا أن نعدها قصة أدبية بالمفهوم الكلاسيكي.. بل إنها تقع في تلك المنطقة التي أسماها محمد المخزنجي يوما ب( القصة الصحفية) أو( الريبورتاج الصحفي) حيث يمزج فيها بين الصحافة والأدب صانعا تلك( الحالة) الإبداعية الخاصة.. هذا اللون من الإبداع حاول المخزنجي ارساءه بقوة في عالم الصحافة وأحسب أنه نجح في ذلك. يطل علينا الكاتب هنا عبر كتابه( جنوبا وشرقا دار الشروق) من خلال أسفاره ورحلاته التي قطعها مابين عامي1993و2001. لدهشة هي أول انطباع يسكنك حينما تقرأ صفحات الكتاب.. وهي نابعة من قدرة الكاتب علي رصد التفاصيل الصغيرة التي قد تفوت علينا ولاتلفت انتباهنا والتي يمزجها ويجدلها المخزنجي مع بعضها البعض ليخرج علينا بانطباع جديد عذب أو فكرة خلابة لم تطرأ علي أذهاننا أو حتي مجرد إحساس اعتمل في قلبه.. ها هي بلاد الجنوب والشرق تفتح له ذراعيها وتحتضنه بقوة بين أراضيها ووديانها وشطآنها في رحمة وحب ومودة وها هو يقع في حبها وولعها ويبادلها عشقا.. يقول في مقدمة كتابه: ثمة فلسفة روحية, ورؤية خلابة ورحيمة في ناس وبلدان ناس الجنوب والشرق ويقول في فقرة أخري: أنا أهيم ببساطة ورقة حال, ومروحة ألوان الجنوب والشرق الطبيعية الخلابة. الجنوب والشرق عنده لايزالان أرضا بكرا فطرية لم تدهسها بعد عجلة التكنولوجيا الفتاكة. تزدهر الطبيعة في أرجائهما بألوانها وأطيافها ورائحتها الخلابة.. البساطة والتلقائية لم تغادر بعد طبائع وسلوكيات أهلها وناسها.. فكيف لايقع المرء إذن في هوي تلك البلدان؟ من ناميبيا وجنوب إفريقيا والمغرب وزيمبابوي والسنغال إلي الهند وتركيا والصين وفيتنام وسوريا وكمبوديا, طافت أقدامه وجالت عيناه.. وهامت نفسه بين أحضان الطبيعة.. واستدعت ذاكرته فصول التاريخ القديم.. هنا عوالم وبلدان ومدن جديرة حقا بالزيارة والقراءة والحب. أمر آخر نشير إليه في هذا المقال وهو أن الكاتب حرص إلي جوار سرده الوصفي الدقيق ورصده لملاحظاته العديدة وعرضه لجوانب الجمال المختلفة للبلدان التي قام بزيارتها أن يقدم إلينا حكاياته البديعة التي بدت في عيوني مثل حكايات صندوق الدنيا القديم العامرة بالإثارة والمفاجآت والدهشة في قالب صلب متماسك.. وكيف لا؟ وحكاياته وسفراته مزودة بالمعلومات التاريخية والفلسفية والجغرافية والعلمية, في إطار بسيط وسهل ومتناغم مع القصة الأدبية الصحفية التي يعرض لها. لكم أغبط المخزنجي علي كل تلك الرحلات التي قام بها.. لكم وددت أن أطوف مثله بلدان الجنوب والشرق وأتعرف علي ثقافات وحضارات وفلسفات شعوبه. لقد استطاعت كلماته الدافئة أن تنقل إلينا مشاعر الحب بل والعشق لمدن الجنوب والشرق التي كانت دائما تقع في مكانة متدنية ومرتبة متأخرة مقارنة بمدن الشمال والغرب الأوروبية.