أرجوك يا أستاذ يحيي, خليك أنت في الاستراتيجية, واترك لنا نحن التكتيك! هكذا قال لي وزير الخارجية السابق السيد أحمد أبو الغيط خلال تلك الجلسة التي نظمها الزميل محمد عبد الهادي رئيس القسم الدبلوماسي منذ أربع سنوات, والتي جمعت بين الوزير وعدد من صحفيي الأهرام في مقر الجريدة لبحث عدد من قضايا السياسة الخارجية. وبالرغم من أن السيد الوزير كرر هذه العبارة مرتين علي الأقل, فإنني لم أفهم حتي الآن مغزاها, وهي العبارة التي استحضرتها مع إلحاح البعض علي ضرورة سرعة تطبيع العلاقات بين مصر وإيران في الفترة الأخيرة. وعودة إلي الجلسة التي جمعت عددا من صحفيي الأهرام ووزير الخارجية في ذلك الوقت, حيث إنها عقدت عقب عودتي من إفريقيا جنوب الصحراء والتي عملت بها مراسلا متجولا للأهرام مدة سنوات طويلة, مما جعل من الطبيعي أن أركز في الجلسة علي علاقاتنا الإفريقية التي كانت تلقي في ذلك الوقت اهتماما لفظيا فقط من دون الفعل. ولكن كعادة تلك الأيام طغت القضايا التقليدية وإن كانت في منتهي الأهمية علي بداية الجلسة وحتي قبل نهايتها بربع ساعة تقريبا, والتي شهدت سؤالين عن إفريقيا ولم أتلق إجابات شافية عليهما. فبعد البداية التقليدية حول القضية الفلسطينية, أثار أحد الزملاء قضية العلاقات مع إيران, إلا أن رد السيد الوزير جاء في شكل تساؤل موجه لكاتب السطور مفاده: هل يمكن لأي مصري يتمتع بحد أدني من الوطنية أن يقبل تطبيع العلاقات مع دولة تطلق علي أحد شوارع عاصمتها اسم قاتل رئيسه السابق ؟ وفي الحقيقة لم أدرك السر من وراء توجيه السيد الوزير سؤاله لي, بالرغم من أنني لم أكن قد نطقت حتي تلك اللحظة متحينا الفرصة لكي أطرح عددا من الأسئلة الفنية الخاصة بأفريقيا. وبالرغم من أنني لفت نظر السيد الوزير إلي أنني لم أطرح سؤال إيران, إلا إنه أصر علي توجيه نفس سؤاله الاستنكاري لي. وحيث إن الوزير قرر أن تكون العلاقات المصرية الإيرانية من نصيبي, فقد قررت تأجيل إفريقيا كالعادة لكي أجيب علي الوزير, حيث قلت له: بالطبع لايليق بإيران أن تفعل ذلك, ولكن لماذا نصر علي تناسي أن هذه الخطورة جاءت بعد أن قبل الرئيس الراحل السادات في عام 1980 استضافة مصر حكومة إيرانية في المنفي برئاسة نجل الشاه. وزير الخارجية أكد أنه لا يعلم بوجود مثل هذا القرار, وهو ما يجعلني أعرب عن دهشتي من عدم معرفته تلك, مما دفع الوزير لكي يقول لي عبارته التي لم أفهم مغزاها حتي الآن: أرجوك يا أستاذ يحيي, خليك أنت في الاستراتيجية, واترك لنا نحن التكتيك! الشاهد, أنني وقلة آخرين, كنا دائما ما ندفع في اتجاه عودة طبيعية لعلاقات طبيعية مع هذه الدولة القاعدية ولكن علي أساس تبادل تحقيق مصالح البلدين بشكل متكافئ, وانتصارا للمبادئ داخل كل من الدولتين واقليميهما. وأذكر أنه في الوقت الذي كانت فيه الأغلبية سواء من مسؤولين أوكتاب يشنون حملة ضد إيران, كنت وهذه الثلة من الكتاب والصحفيين نطالب بعقلنة التناول للعلاقات مع طهران باعتبارها جزءا اصيلا من مكونات هذا الإقليم الملتهب من العالم, وباعتبار أن أي ضرر ينزل بها سيصيب مصر هي الأخري بشكل أو بآخر. ودار الزمان دورته, وقامت ثورة الخامس والعشرين من يناير لكي تستدير السياسة الخارجية المصرية إزاء العديد من القضايا ومن بينها العلاقات مع إيران, لكي تهب الأغلبية التي كثيرا ما تبنت مواقف سلبية وغير مكترثة, ولكن هذه المرة لتكون مؤيدة بشكل مطلق, وذلك بعد أن كانت معارضة علي الإطلاق, ومن دون أن تفكر للحظة في الشروط التي يجب توافرها لعودة طبيعية لعلاقات طبيعية مع إيران. فمع التسليم بأن الأمن لأي دولة يبدأ ويصل إلي ذروته مع بداية حدود إقليمها حتي نهايته, فإن منطقة الخليج العربي تصبح تاريخيا جزءا شديد الحساسية من الأمن الإقليمي لكل من مصر وإيران بما لا يدع الفرصة لأي منهما تجاوز الأخري في تلك المنطقة الحمراء. ولذا, فإنه كان مستغربا أن يصمت الكثيرون علي التدخل الإيراني الفادح علي أساس طائفي في الشئون الداخلية لدولة مثل البحرين انتصارا للإخوة البحرينيين من الشيعة بالرغم من تمتعهم بقدر هائل من التمثيل في جميع سلطات البلاد, في الوقت الذي لا تسمح فيه إيران لأي طرف بالحديث مجرد الحديث عن تعاملها اللاإنساني لتسعة ملايين نسمة هي تعداد الأقلية العربية الضخمة في إقليم الأحواز العربي تاريخيا. الغريب هو أن مصر الرسمية بعد الثورة أقدمت علي تصحيح المبدأ شديد الخطأ للنظام السابق الرافض لتطبيع العلاقات مع إيران, إلا أن تحركات بعض مسئولي حكومة الثورة لم تراع أن يكون التطبيع طبيعيا وأن يقوم علي أسس منطقية, أما ما يسمي بالدبلوماسية الشعبية, فإنها بعد أن وقعت في أخطاء فادحة في إفريقيا, عادت لتقع في مزيد من الأخطاء في الزيارة الأخيرة لإيران, ليس علي الصعيد الاستراتيجي ولكن علي الصعيد التكتيكي حسب تعبير الوزير السابق فالمواقف الرافضة للنظام السابق لم تكن لتخدم مصالح مصر, إلا أن ظننا وليس كل ظن إثما أن أسلوب التحرك المصري بعد الثورة مع إيران لن يخدم المصالح بالقدر المأمول هو الآخر,مع التأكيد علي صحة الهدف المتمثل في تطبيع العلاقات, ولكن السؤال كيف؟ وعلي أي أسس؟ الإجابة علي السؤالين ليست صعبة؟ ولكنها قصة أخري...