** كانت دائما اعتبارات الجغرافيا والتاريخ وحركة وعلاقات البشر هي المحددات الفعالة في العلاقات المصرية السودانية. والتي أدت بدورها الي جعل كل من الأمن القومي المصري والأمن القومي السوداني مسألة ترتبط بالأساس ليس بمصير شعبين بل بمستقبل شعب واحد صهرته صلات النسب والدم عبر تاريخ طويل يمتد لمصر, وكان دائما أقل الجهات الاستراتيجية تهديدا للأمن القومي المصري نظرا للعلاقات الوطيدة والحميمة التي ربطت بين شعب وادي النيل في الشمال والجنوب وعلي مدي السنين حرصت السياسة المصرية علي الحفاظ علي وحدة السودان واستقراره وتماسكه مع تعزيز علاقات التكامل بين البلدين, إلا أن القوي المناوئة لمصر والساعية الي ضرب أمنها القومي في الصميم رأت دائما أن تحقيق أهدافها يرتبط بتوطيد علاقاتها بأي شكل في المجال الإفريقي سعيا الي الاحاطة بالسودان من كل جانب, واستعداء معظم جيرانه عليه, ولا يمكن لأحد أن يغفل هنا أن الهدف لم يكن النيل من الأمن القومي للسودان وحده بل كانت مصر هناك في ذهن كل المخططين الذين يريدون النيل من السودان ومقدراته ومصيره ومستقبله.وتعود جذور الادراك المصري لأهمية السودان الاستراتيجية في العصر الحديث الي النصف الأول من القرن التاسع عشر منذ أن بدأ محمد علي والي مصر في بناء الدولة الحديثة. في عام1920 تقدمت جيوش الدولة المصرية لأول مرة لتقوم بلملمة أطراف المناطق الواقعة جنوبها ممثلة في سلطنات وممالك وقبائل السودان لتصنع من كل هذا كيانا إداريا وسياسيا واحدا وهو مااصطلح علي تسميته بالسودان. وبينما انصب العمل المصري خلال العشرينات من القرن التاسع عشر علي توحيد السودان فانه انطلق في ستينيات وسبعينيات القرن نفسه علي تأمين السودان سواء بالاندفاع جنوبا حتي وصل الي أوغنذا أو التقدم شرقا الي الصومال وإريتريا والحبشة. ولقد عبر شريف باشا رئيس وزراء مصر عن إدراكه وغيره من الساسة المصريين لأهمية السودان بالنسبة للأمن القومي المصري عندما فضل الاستقالة من رئاسة الوزراء علي تنفيذ سياسات في السودان تعرض الأمن المصري للأخطار وقال إن السودان ألزم لمصر من الاسكندرية. وحتي في السنوات الأخيرة اتسمت السياسات المصرية تجاه السودان بحرص مصر علي إقامة علاقة متوازنة مع جميع القوي السياسية السودانية وبقيت علي مسافة واحدة من الأطراف كلها. وعندما داخل السودان مرحلة جديدة في تاريخه بتوقيعه لاتفاق السلام الشامل بشأن جنوب السودان في نيروبي عام2005 تحفظت مصر علي حق تقرير المصير للجنوب لأنها تسعي في إطار سياساتها المعلنة التي لا تقبل التأويل الي تحقيق وحدة السودان, ومع ذلك فانها قبلت وعملت من أجل التطبيق الكامل لاتفاق السلام الشامل في الجنوب ومحاولة حل المشكلات التي تعترض تطبيقه, بل وأكدت مصر علي لسان الرئيس مبارك أهمية استمرار جهودها من أجل تنمية الجنوب السوداني ومعاونته في إنارة مدنه وتحسين الرعاية الصحية في الولايات العشر الجنوبية ودفع عجلة التنمية هناك في كافة المشروعات الخدمية ودعم البنية التحتية. وفيما يتعلق بقضية دارفور منحت مصر أبوابها لقيادات الحركات المسلحة الذين دعتهم لأكثر من اجتماع لتوحيد خصائصها كضرورة ملحة للدخول في تفاوض مع الحكومة السودانية لحل الأزمة, في الوقت الذي سعت فيه مصر لدي الحكومة السودانية لاقناعها بضرورة تفادي التصعيد مع المجتمع الدولي وضرورة تحسين الأوضاع في الاقليم. وهكذا نري أن السودان دائما لا يغيب عن اهتمام مصر بشئونها المصيرية, لأن القاهرة تدرك أهمية السودان كمعبر استراتيجي لنهر النيل الذي تستمد منه الحياة, ولأنها تعلم أن كوب الماء سيكون أغلي من الذهب وستدور حوله صراعات وحروب تسعي مصر الي تفاديها بالعمل علي القضاء علي أسبابها والمخططين لها من الآن. وأذكر هنا ماأعلنه الرئيس مبارك أكثر من مرة من أن مياه النيل خط أحمر لا يمكن أن نسمح لأحد بالعبث فيه أو تجاوزه ولن تسمح مصر بعزل السودان عن محيطه الاقليمي الافريقي وهو ماتدبر له القوي المتآمرة معتقدة بأن استقلال الجنوب السوداني سيحقق هذا الهدف بل ستظل العلاقة صحيحة وعفية وحميمة بين شمال السودان وجنوبه وستعمل مصر والحكومة السودانية والمسئولون في الجنوب السوداني علي إدراك أهمية الأمن القومي المصري السوداني المشترك, والحيلولة دون النيل منه من خلال تفعيل علاقات التعاون وتوسيع آفاق المشاركة والتكامل مع محيطهما الجغرافي الافريقي القريب والبعيد علي حد سواء.