الصورة النمطية لأي شعب لدى الأخر هي أحد المحددات لمسار العلاقات بينهما ، فرغم أن العلاقات السياسية قد تكون تعبيرا عن تحركات متبادلة بين أنظمة حاكمة للدول ، إلا أنها تتم في النهاية في إطار مدركات شعبية. وكلما حملت هذه المدركات معاني وقيم وتصورات إيجابية وفر ذلك بيئة تنمو فيها العلاقات بين طبيعي والعكس صحيح. وتتسم صورة الشخصية المصرية في السودان بالتركيب وبالتباين بين مفرداتها الداخلية، خاصة أنها تجذرت وتبلورت عبر مفاعيل تاريخية وجغرافية ومجتمعية وسياسية لازالت تفرض سطوتها على صياغة هذه الصورة ، فالمصري في المخيلة السودانية هو خليط من " المستعمر القديم" الذي حكم البلاد بالاشتراك مع الأتراك تارة ، والإنجليز تارة أخرى ، والمتعالي ، والجار القريب الأكثر تطورا وتمدنا ، ورمز العروبة ، والمستقر ، والذكي، والمتجانس مجتمعيا، والمختلف في اللون، والذي يعيش في دولة مركزية منفتحة على العالم. كل هذه العناصر بما تحمله من إيجابيات وسلبيات تجعل صورة المصري لا تتخذ نمطا محددا في أذهان السودانيين ، بمعنى أنها تضيق أحيانا لتضم ما هو سلبي حينما تتوتر العلاقات بين الدولتين ، حيث يتم عمل شحن إعلامي من بعض القوى السودانية تذكر بتاريخ المصريين وعلاقتهم مع الثورة المهدية ، وتتسع الصورة لتجمع ما هو إيجابي ، حينما تعود هذه العلاقات لحالتها الطبيعية ، ويتم حينها التذكير بالمصير المشترك والعلاقات القرابية والمجتمعية بين شطري وادي النيل ، وبأن المصريين هم مفتاح أهل السودان لعلاقات أقوى مع العالم. كما أن مفردات هذه الصورة النمطية تختلف من قوى سياسية سودانية إلى أخرى ، ومن إقليم جغرافي إلي أخر ، فالجنوبيون ذوي الثقافة الأفريقية تضيق نظرتهم للمصري في أنه رمز العروبة والإسلام والمهتم فقط بمياه النيل ، وعدم رغبة الجنوب في الانفصال ، وأيضا المتحالف مع الشماليين ضدهم ، بينما النظرة في الشمال نفسه تتنوع ما بين الأطياف السياسية السودانية بحسب قرب أو بعد علاقتها بمصر ، إلا أنها تتضمن عنصرا يكاد يكون مشتركا أو بالأحرى عقدة في الإدراك السوداني عن المصري ، وهو الاستشعار بعدم الندية التاريخية والثقافية والسياسية في نظرتهم للشخصية المصرية ، وهو جعل بعض القوى السياسية السودانية ترى في أي دور مصري في بلادهم من منظور التدخل والسيطرة ، ومن هنا يتم استدعاء مفهوم "السودنة" في مواجهة ابن النيل. وامتدت هذه الصورة من الثقافة والإدراك الشعبي إلى السياسة وأروقة أنظمة الحكم ، ومن المجتمع إلى النخب المثقفة. ويكاد يتفق المتتبعون للسياسة الخارجية للسودان منذ استقلاله عام 1956 على أن ثمة نزوعا لها لصياغة مشروعات سياسية مستقلة وعلاقات إقليمية تتجاوز الجار المصري ، وخاصة في أوقات الصدام ، ولعل مشروع الإنقاذ للعب دور عالمي إسلامي مثل محاولة في هذا السياق، كذلك محاولات الارتباط بقوى إقليمية مثل إيران والعراق في بعض الفترات ، فضلا عن تهميش الدور المصري في اتفاقات السلام الأخيرة في السودان التي احتضنتها كينيا عكس ذلك بشكل أو أخر. كما أن عدم انتقال مشروعات التكامل المصري السوداني من حيز الشعارات والاتفاقات الاحتفالية إلى التنفيذ عكس استشعارا سودانيا بأن التكامل يعني هيمنة الجانب المصري ، خاصة في ظل تباين مستويات التطور الاقتصادي والهياكل الإنتاجية بين البلدين ، وهو دفع البعض إلى القول إن الشراكة المصرية السودانية هي الحالة الصحية للعلاقات بين البلدين ، وليس التكامل. مغذيات الصورة وتتعمق مفردات الصورة الذهنية السودانية غير المستقرة عن المصري بفعل عوامل عديدة ، لعل أبرزها: 1- اختلاف درجة الانسياب المجتمعي، حيث تتجذر فكرة عدم الندية ، ومسالة الاستقرار والانسجام المجتمعي في رؤية السودانيين للشخصية المصرية ، حينما يجدون أنفسهم يتجهون شمالا ، بينما المصريون لا يتجهون جنوبا، فأغلب السودانيين يعرفون مصر بكل تفاصيلها وجغرافيتها ، بينما العكس لا يحدث. ولعل أحد دراسات المجالس القومية المتخصصة تشير إلى أن ما يقرب أربعة ملايين ونصف مليون سوداني لجأوا إلى مصر في أواخر التسعينات ، وهم يعيشون في أحياء تعكس مختلف الشرائح المصرية. هذا الانسياب من الجنوب إلى شمال وادي النيل عمق بشكل لا شعوري من إدراك السوداني للمصري على أنه متعالي ، ولا يتعامل بندية، وهو ما انسحب بدوره إلى السياسة ومجالات أخرى. 2- عدم الاستقرار في العلاقات السياسية بين الدولتين ، وهو ما خلق رؤى مجتمعية وسلطوية غير مستقرة لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات مع مصر، فتارة يعلو صوت التكامل المصري السوداني أيام حكم جعفر نميري، وتارة أخرى يخفت صوته في حكم الصادق المهدي رئيس الوزراء الأسبق، وتارة ثالثة تتوتر العلاقات في التسعينيات مع حكم الإنقاذ ذي الصبغة الإسلامية ، خاصة بعد محاولة اغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا عام 1995، وتارة رابعة يعود الود خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة لتوقع اتفاقيات الحريات الأربع في عام 2004. ومرد هذا كله إلى اختلاف معدلات الاستقرار في البلدين ، فالسودان منذ استقلاله مر بأنظمة عديدة عسكرية وديمقراطية ، بينما النظام المصري ظل مستقرا منذ ثورة يوليو 1952، ومن هنا لم تكن هناك رؤية سودانية واضحة لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة مع مصر، إنما اختلفت باختلاف الأنظمة السياسية ومصالحها. 3- هيمنة المنظور الأمني على الرؤية المصرية للسودان،حيث لا زال المصريون يقصرون نظرتهم للسودان على المياه ، وضرورة بقاء هذا البلد موحدا ، دون توسيعها إلى علاقات متشعبة ومتجذرة في مجالات مختلفة ، تجعل السودانيين يشعرون أن الاهتمام المصري بهم ينطلق من منظور الاهتمام بالمجتمع ، بما يحويه من تعدديه وثقافات مختلفة ، ولعل ذلك جعل السوداني يشعر بالارتياب والحساسية من الوافدين المصريين إلى بلاده. 4- هيمنة الخطاب التاريخي على رؤية السودانيين للمصرين ، فلازالت المخيلة السودانية ترى في المصري "المستعمر" الذي دخل السودان ، منذ بدء فتوحات محمد علي في أعالي النيل في عام1820 ، كما ولا زالت المعارك التي خاضها المصريون ضد الثورة المهدية ماثلة تستدعي من بعض النخب السودانية الراغبة في توتير العلاقات مع مصر ، فضلا عن استدعاء أحداث جزيرة أبا جنوبالخرطوم،والتي استهدفت إخماد احتجاج من الأنصار والحركة الإسلامية في السودان عام 1970، حيث دعمت مصر آنذاك موقف الرئيس الأسبق جعفر نميري. 5- عدم التوازن في العلاقات التعليمية ، فمصر تصدر للسودان النظم التعليمية والثقافية المصرية ، ولا تأخذ منه ما يكفي لإقامة علاقة متوازنة بين الشعبين، ولعل ذلك اتضح في رد فعل حكم الإنقاذ ، حينما توترت العلاقات مع مصر ، حيث استولى على المؤسسات التعليمية المصرية في النصف الأول من التسعينيات. 6- ارتباط السودانيين بالسينما المصرية أدى إلى خلق صورة سودانية غير إيجابية عن المصري، حيث تظهر هذه الأفلام أن النوبيين أصحاب البشرة المشتركة مع السودانيين يعملون في وظائف متدنية ، كما تكثر عليهم النكات ، وهو ما خلق في الأذهان السودانية انطباعا بأن المصريين يتكبرون على أصحاب البشرة السوداء، بل إن السينما المصرية أعطت صورة غير صحيحة عن الحياة المجتمعية المصرية عند السودانيين، خاصة من لم يأت منهم إلى القاهرة ، حيث يرى هؤلاء أن المصري منفلت اجتماعيا ، بينما من زار القاهرة من السودانيين يرون أن المصري هو الأكثر تدينا من بين شعوب المنطقة العربية. 7- ضعف الاهتمام الإعلامي السوداني بمصر والعكس صحيح في وسائل الأعلام المختلفة اللهم باستثناء الأحداث السياسية ، حيث تغيب معالجة القضايا الاجتماعية والثقافية في البلدين ، وحتى تغطية الشأن السياسي عادة ما تكتسب حساسية خاصة في الأزمات بين البلدين كما حدث أبان أزمة حلايب ، ومحاولة اغتيال الرئيس المصري في أديس أبابا. 8- إن الاهتمام المصري بالسودان لم ينتقل إلى المستوى الشعبي إلا قليلا، فعلى سبيل المثال فإن الأدوار الإنسانية التي تصنع للدول صورا ذهنية جيدة لم تمارسها مصر كثيرا ، ودليل ذلك ضعف الدور الإغاثي لمصر في جنوب السودان ، فضلا عن شماله. البحث عن مسار ثاني إن استقرار الصورة الذهنية للمصري في السودان وإزاحة المدركات السلبية منها يحتاج إلى مسار ثاني في العلاقات يتعامل مع بشفافية وصراحة بعيدا عن المنطق الاحتفالي الرسمي الذي أضر بالعلاقات بين البلدين أكثر مما أفادها . هذا المسار يفترض أن يركز جل اهتمامه على تعميق الروابط الشعبية وغير الرسمية ، بما يوفر بيئة تساعد المسار الرسمي على صياغة إستراتيجية لها صفة الديمومة. وفي هذا السياق يمكن استثمار حالة الود التي تمر بها العلاقات حاليا لدفع هذا المسار الثاني للتبلور: 1- انسياب إعلامي متبادل ، حيث أن إصلاح الصورة المصرية في السودان يقتضي انسياب إعلامي مصري( إذاعة وتلفزيون وصحافة) في أرجاء السودان ، للتفاعل مع شعبه والخروج بتقارير أكثر واقعية عن الناس ، ولعل من يزور السودان يكتشف أنه أمام شعب شفاف مليء بالطيبة لديه رغبة في إقامة علاقات صحية مع المصريين أكثر من أي دولة أخرى ، كما يكتشف أيضا أن المصريين لديهم فرصة وميزة نسبية كبيرة في هذا البلد على صعيد الاستثمار مقارنة بأي بلد أخر ، وهذا يستلزم زيادة الجرعات الإعلامية عن السودان في الصحف المصرية والعكس صحيح. 2- ضرورة أن يتفهم المصريون الحساسية السودانية تجاه قضية الندية ، حيث أن ذلك هو مفتاح نجاح العلاقات بين البلدين ، وكذلك إصلاح الصورة الذهنية للمصري في السودان، وليس الأمر هنا قاصر على الاقتصاد ، إنما يمتد إلى مجمل العلاقات الأمنية والسياسية والثقافية والاجتماعية ، والتعليمية. 4- إصلاح المناهج التعليمية في كلا البلدين ، وتنقيتها مما يثير حساسيات شعبية ، حيث لا زالت المناهج السودانية تحوي الكثير مما يثير مدركات سلبية تجاه المصريين خاصة على صعيد دورهم التاريخي في شئون السودان ، في المقابل فإن المناهج المصرية لابد أن تعطي اهتماما خاصا بالسودان ، وليس باعتباره متغيرا تابعا للسياسة المصرية . 3- إنهاء القضايا العالقة بين البلدين ، وخاصة مسالة الأزمة الحدودية حول حلايب ، حيث لا زالت هذه الأزمة تمثل أحد ملوثات الصورة الذهنية للمصري في السودان، وتستخدم من بعض الاتجاهات السودانية التي لا ترغب في تطوير العلاقات بين البلدين. 4- تنشيط دور المجتمع المدني المصري في السودان ، ولعل أزمة دارفور مثلت نموذجا جيدا للحركة المصرية في غرب السودان، حيث توافد المصريون على المنطقة ، من نقابات الأطباء وجهات مدنية ورسمية ، مما خلق شعورا بأن العلاقات بها أبعاد إنسانية وليس فقط سياسية. 5- تعديل طريقة التفكير الاقتصادية المصرية في السودان ، فثمة مقولات عامة حول ضرورة تهجير العمالة المصرية وخاصة الفلاحين إلي السودان ، غير أن هذه النقطة تثير حساسية ويرفضها السودانيون، تخوفا من السيطرة المصرية ، فالسودان يريد استثمارا مصريا وليس تهجير عمالة مصر إليه. إن أزمة الصورة النمطية للمصري في السودان تكمن في تكونها من منظار تاريخي ونفسي ، دون القفز على ذلك لرؤية المصالح الآنية التي تحتم على كلا الطرفين أن يكونا جنبا إلى جنب ، فالسودان لن تجد سندا سوى مصر في مواجهة الأزمات الإقليمية والدولية ، أما المصريون فلن يجدوا ميزة نسبية حقيقية سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع ، إلا إذا توجهوا جنوبا. باحث وصحفي مصري ، [email protected]