بدأت القصة مع التكليف الذي تلقيناه صباح ذلك اليوم, وكنا انا وحلمي نشرف علي الصفحة الثقافية بجريدة الوحدة نجلس في حجرة واسعة تطل نافذتها علي شارع عريض, بها مكتبان متواجهان, ونقوم بكل ما تحتاجه الصفحة ماعدا تغطية المؤتمرات خارج العاصمة, معنا, لكن علي كرسي قرب باب الحجرة, خلفاوي ببدنه الضخم ورأسه الحليق علي الزيرو, يتصفح مجلات او يتثاءب إلي ان يطلب منه احدنا شيئا, ومع ان خلفاوي الذي ناهز الثلاثين, ساعي, إلا انه كان يقوم بأي شيء, وما لايستطيعه يظل وراءه بإصرار حتي يتقنه ويتولاه. ساعده علي ذلك ذكاؤه الفطري وطموحه ودبلوم متوسط, وخلال عام واحد كان خلفاوي قارئا للصحف يرمي بملاحظاته الدقيقة علي ماينشر ويسخر من تبدل مواقف الكتاب, في نهاية العام الأول من عمله صار خبيرا في الكمبيوتر, يفتح ملفات, ويطارد فيروسات. التكليف الذي تلقيناه كان بتغطية مؤتمر في احدي المحافظات البعيدة, وكالعادة اتصلت بشاب من قسم الأخبار كنا نعتمد عليه في تلك السفريات, فقيل لي انه في اجازة ثلاثة ايام لظرف طارئ, وعلق حلمي ضاعت عليه المائة جنيه بدل السفر, ووضعنا في ورطة تطلعت إليه استكشف بنظرتي ان كان قد يقبل بالسفر. فعاجلني بقوله لا ياعم! لا هذا مشوار يحتاج صحة, كنت أعلم انه يكره فنادق الاقاليم فلزمت الصمت. خلفاوي الذي اعتدنا تدخله في كل شيء, واعتاد هو علي صمتنا لان ملاحظاته كانت في معظمها دقيقة, مط شفته السفلي وهز رأسه قائلا باستهانة وماذا يكون المؤتمر يعني؟ ناس يتكلمون, نرسل اي شخص والسلام مشكلة يعني؟ وقهقة بصوت مدو كأنما يقف في حقل مفتوح بقريته, وسكت, ثم استند بباطن قبضته علي حافة مكتبي وأعلن ما بين الجد والهزل كأنما يجود علينا بهدية هاتوا المائة جنيه بدل السفر واذهب انا, الفكرة بدت غريبة, لم استوعبها, مثل قطعة خشب يدفعونها لفم انسان علي انها طعام فتتعطل حواسه لحظة, لمح خلفاوي حالتي علي وجهي, فتراجع للخلف واولاني ظهره خارجيا من الحجرة وهو يقول مؤتمر؟ يعني نخاف يعني؟ وعاد بعد دقائق يحمل فنجاني قهوة, وضعهما امامنا بصمت لكي لايشوش علينا استطعام اقتراحه. تبادلنا انا وحلمي نظرة, وبدا ان حلمي حسم امره فقال لخلفاوي, طيب عندك بدلة انيقة؟ وعلي الفور اندفع خلفاوي من الثغرة التي فتحت امامه يوسعها مؤكدا بحماس عندي وقميص وكرافت ايضا, ثم انا سأحمل مسجلا صغيرا, اسجل عليه كل مايدور, وممكن كاميرا, وإذا سألني احد اقول من الجريدة وخلاص, مشكلة يعني؟ ولمعت عيناه بأمل واثق يشجعنا, لكني تظاهرت بأني متردد, ربما كنت مترددا فعلا, وانا أقول له لكن اياك تفضحنا! صاح بلهجته الريفية الممطوطة كيف؟ وكل ما سأقوم به الضغط علي زر التسجيل؟ ما عدا ذلك أنتم تعرفون خلفاوي يسلك من الجن, استراح حلمي وقال له وإذا سألوك عن اي شيء انت صحفي, اديب هبط خلفاوي برقبته بين كتفيه وفتح عينيه باستنكار, صحفي ماشي, لكن اديب ؟! كيف يعني؟ هونت عليه بنبرة مطمئنة انت تعرف اسماء طه حسين والحكيم, وشعشعت الفكرة عند حلمي فقال وما عدا ذلك قل انا احب ساراماجو مط خلفاوي بوزه باشمئزاز متوجسا من اهانة ساراماتو؟! كيف يعني؟ ضحك حلمي ليس صاراماطو, بل ساراماجوا, اديب برتغالي ام خلفاوي مدركا ان الكلمة لاتحمل معني قبيحا, وقال رافعا حاجبيه لاعلي واجب اتذكره احتياطا. قبض خلفاوي المائة جنيه وتركنا, وعاد بعد يومين, الحق اقول كدنا لانعرفه وهو داخل علينا برأس مرفوع وبدلة وتحت ابطة رزمة كتب وضع امامنا جهاز التسجيل, وصاح بشمخة, كل كلمة نطقوا بها ومعي صور للمتحدثين, وبالمناسبة بعضهم اصر علي التقاط صورة معي للذكري. خطف خلفاوي اهتمامنا, واصبح ذهابه وايابه وما فعله الموضوع الرئيسي, وسألناه عن التفاصيل فحكي كل شيء, قال إنهم استقبلوه بترحاب بدا علي وجهه انه أراد ان يقول بتقدير وانه كان يتحين الفرصة خلال الاحاديث لتمرير عبارة بالمناسبة انا احب ساراماجو اديب عظيم وقهقة بطريقته الصاخبة مضيفا مرة واحد منهم سألني ومن يكون ساراماجو؟ فأجبته بدهشة خير ياعم؟!الم تقرأه؟! انتبه حلمي إلي رزمة الكتب فسأله ما هذا؟ ابحاث المؤتمر؟ وسحبت كتابا من بينها وقرأت بصوت مرتفع اهداء علي الصفحة الأولي منه إلي الاديب الكبير خلفاوي السيد خالص التقدير لابداعه, نظرت إليه, ورأيت للمرة الأولي سحابة خجل خفيفة تمرق في وجهه, ولكنه ما لبث ان ثار بغضب صادق صائحا, اهداني اياها بعض الادباء ما ان علموا اني صحفي في جريدة ماذا افعل؟ كان لابد من سبك الدور وغادر الحجرة بعصبية ولم يعد, وفي صباح اليوم التالي رأيناه من جديد عند باب الحجرة في القميص والبنطلون القديمين, وتفادينا كلنا بتوافق غير معلن التطرق لموضوع المؤتمر, وبعد اسبوع صارت مظاريف مغلقة تحتوي علي كتب تصل باسم خلفاوي, كان يفتحها امامنا ببطء ثم يتجه بها ببهجة مكتومة إلي مقعده, هناك يخرج الكتب والروايات ويقرأ بعضها, احيانا كان يقول بحيث نسمعه والله هذا الشاب موهوب اسلوبه حلو وبالتدريج صار خلفاوي يسألنا عن كتب بعينها ويستعيرها منا لقراءتها, مع حلول صيف ذلك العام تركنا خلفاوي والتحق صحفيا باحدي الصحف تحت التدريب, فلم نره بعد ذلك زمنا طويلا, إلي ان سمعت في احدي الجلسات انه مسئول عن ملحق ادبي في صحيفة رائجة, وكنت بالأمس قريبا من مقر تلك الصحيفة فساقني الفضول لزيارته. واستقبلني في مكتبه بترحاب وتهليل, وكان عنده شاب جالس بأدب علي كرسي عند طرف المكتب ويده ترتجف بورقة, ونصحه خلفاوي امامي قبل ان يصرفه اقرأ ساراماجو, أنا احب ساراماجو واستدار نحوي وهو يضيف بنظرة مركزة وببطء كأنما يبثني رسالة خاصة, وماركيز وانصرف الشاب متراجعا بظهره, واغلق الباب خلفه بحرص, صرنا وحدنا, فانطلق خلفاوي يحدثني عن مشاريعه الأدبية للمرحلة المقبلة. -------------------------- عن الكاتب- صدرت له الكتب التالية: الأحلام والطيور الكرنفال مجموعة قصصية.1967 معجم المصطلحات الأدبية ترجمة عن الروسية .1984 المسألة الهيودية للأديب العالمي دوستويفسكي مجلة ادب ونقد العدد رقم69 مايو.1991 كان بكاؤك في الحلم مريرا قصص ترجمة عن الروسية.1985 قصص وقصائد للأطفال ترجمة دمشق عام.1998 نجيب محفوظ في مرآيا الاستشراق ترجمة وإعداد عام.1989 اسرار المباحثات العراقية السوفيتية في ازمة الخليج اعداد وترجمة.1991 موسكو تعرف الدموع دراسات القاهرة.1991 حرب الشيشان1996 دار الاتحاد بالإمارات. نساء الكرملين1997 مكتبة مدبولي. رائحة الخبز قصص مترجمة1999 هيئة قصور الثقافة. قطعة ليل مجموعة قصصية من تأليفه في يوليو2004 دار ميريت بالقاهرة. الباب المغلق بين الاقباط والمسلمين القاهرة2007 الهلالي. كناري مجموعة قصصية كتاب اليوم اخبار اليوم القاهرة ديسمبر.2010