في نهاية اليوم الثامن عشر من عمر الثورة, أعلن سقوط الطاغية, وفي كل مدينة شهدت قتالا ضاريا وسالت في طرقاتها دماء الحرية, توحدت الجموع في كلمة ومعني واحد: مصر.. مصر.. مصر وكأنهم يهتفون: العقد.. العقد.. العقد. دعونا ندقق باحترام ومهابة في المعني الكامن لهذه الكلمة مصر التي رددتها جموع الشعب في تلك اللحظة التاريخية, كتجل جديد للوعي الشعبي بالرغبة في توقيع عقد اجتماعي. لم تكن مصر في تلك اللحظة نضالا من أجل الاستقلال ولا تعبيرا عن طبقة بعينها ولم تكن تعني دعوة الي فرعونية أو القومية العربية أو تعبيرا عن القبطية أو الاسلام لم يكن المعني الحاضر للكلمة في الواجدان والعقل يخص الهوية العامة للعرق أو الدين أو الطبقة بل كانت تعبيرا عن معني جديد في تاريخ الوعي العام للجماعة المصرية, وعي كامن تصنعه الثورات وتكشف عن ملامحه. في الأيام الثلاثة الأولي للثورة نشب صراع بين ملايين المصريين المساقين قصرا الي عبودية التوريث, وبين الدكتاتور وولي عهده وأعوانهما, في نهاية اليوم الرابع هشمت الحشود العربية المتطلعة الي الحرية فيالق النخاسة المسلحة من كتائب وألوية الأمن المركزي. بعدها أخذ نظام العبودية يترنح, وهو لا يفهم من أين جاءته الضربة, رغم أنه يسيطر بقبضة الحديد علي خريطة الحياة السياسة المصرية بقضها وقضيضها, الخصوم في المعتقلات أو تحت المراقبة اللصيقة والحلفاء أغدقهم بذهبه أو خصاهم بسيفه والناس أسيرة همومها وأوضاع مأساوية خنقها في داخلها النظام البائد. خلال الخمسة عشر يوما التالية حاولت بقية من مؤسسات النخاسية المدربة علي سواقة القطعان الي حظائر النظام, البحث عن مخرج وهي عاجزة عن اسيتعاب هذا المارد الذي خرج علي حين غرة, وضد كل التوقعات من القمقم, وفي نهاية ليل اليوم الثامن عشر استنفذ النظام كل قواه, وحسمت معركة الحرية والتحرر من ربق العبودية لصالح الشعب الثائر. في أتون المعركة التاريخية سقطت كل الحواجز بين الشعب, وانصهر في الكفاح تحت لواء الثورة منذ اللحظة الاولي شباب من تيارات يسارية وقومية, والإخوان المسلمون, أما الثقل الحقيقي فقد كان لشباب ونساء ورجال وشيوخ وأطفال ينتمون الي الغالبية الصامتة التي نشأت وترعرعت وعلمتها تجاربها الحذر من السياسة والسياسيين والترفع والابتعاد عن الانخراط في ممارسة النشاط السياسي. خلال المواجهات الدامية تحت دوي الرصاص والقنابل المسيلة للدموع, واندفاع عربات الأمن المركزي تسحق اجساد شباب غض وتقتل المحتجين وفوق أسفلت ميادين الاعتصام والتظاهر, وأثناء حرب الحجارة وزجاجات المولوتوف التي أشعلت ليل التحرير, لم يكن أحد يهتم بانتمائه الديني, أو العقائدي أو العرقي, أو الطبقي, أو الجنسي لقد سقطت كل التقسيمات وتلاشت الفواصل والحدود وضمد الوطن أشلاه التي مزقتها صراعات داخلية شلت المجتمع المصري لاربعة عقود متواصلة. وعندما تحدي الشعب بصدره العاري شبح الموت المخيم علي الرءوس وتمكن من هزيمة وتهشيم ألوية الأمن المركزي, وعصابات البلطجية وفرق القناصة الخاصة تهاوت سياسات السيطرة والاخضاع وتراخت القبضة الامنية الحديدية المؤسسة علي بناء عالم من الخوف والامتهان, في تلك اللحظات التاريخية انبعث من رماد الموت مواطن مصري جديد, تحمل قسمات وجهة شموخا ورفعة, وقد استعاد في ليل التحرير وعي امتداد الوطن وأمام أقسام الشرطة ومديريات الأمن يقينا بالذات وثقة في النفس, عمادها دماء الشهداء ليشرق داخل الوجدان العام للجماعة المصرية المعني العظيم للحرية وتتبلور في الذات الفردية للمواطن قيمة صافية نقية تتمثل في المعني الذي صاغته الثورة انا مواطن حر فقط من الحرية الفردية تتخلق الشروط الموضوعية لتوقيع عقد اجتماعي, ويمتنع علي غير المواطنين الاحرار الانخراط في صياغته. العقد الاجتماعي لايوقع بين العبيد.فالعبد ليس لديه ما يملكه سوي صكوك الرق والعتق التي يمنعها ويمنحها السيد طبقا لرغباته وأهوائه وميوله ومنافعه ومصالحه, بما في ذلك الحق في الحياة أو الموت. في النهاية اليوم الثامن عشر وفي لحظة تاريخية جعل المصريون من الحرية الهوية الجديدة التي انصهرت فيها كل الهويات, ومن هذه الروح ظهرت علي سطح الوعي العام بشائر الاعلان الأول عن ميلاد العقد الاجتماعي للأمة المصرية. كانت الثورة قد أظهرت بشكل واضح ضعف القوي السياسة, وعدم قدرة العقائد والأفكار المذهبية علي تقديم نموذج يشكل مخرجا من الأوضاع المزرية, ولهذا خرج المواطن للمرة الأولي كي ينخرط في مواجهة مشاكله السياسة والاجتماعية والاقتصادية المستفحلة. هذا الذي جعله يخوض ثورته بنفسه وبدون قيادة, بوعي سياسي وإرادة علي الانتصار واجماع علي الفهم مما وضع الجماعة المصرية للمرة الأولي علي المشارف العظيمة للدولة العصرية التي يمارس فيها كل المواطنين حقوقهم السياسية. هكذا تبلور الشرط الموضوعي الثاني لميلاد العقد الاجتماعي, والذي يتمثل في بلوغ المواطن القدر اللازم من النضج والثقة اللازمة بالنفس والايمان بكينونته, الأمر الذي يؤهله لامتلاك الأهلية القانونية التي تسقط عنه كل أشكال الوصاية. في جمهورية التحرير لم يعد المواطن يقبل بالخوف مصيرا له, ولا الشعارات التي يطلقها الطغاة باسمه وسبله لخداعه, فقد ترك ماضي العبودية خلفه, وأصبح يشق طريقه معتزا بحريته وكرامته وانسانيته, فقد صار ناضجا بما يكفي لأن يأخذ قياده بنفسه. السياق الثالث الذي جعل من العقد الاجتماعي واقعا, تمثل في قبول المواطن الحر الذي يمتلك الأهلية القانونية, في الانصهار طوعا وعن إرادة مع جميع المواطنين في بوتقة واحدة, ليتجلي جوهر جديد في مسوح كلمة قديمة عريقة عمرها عمر الزمن, هي مصير. هكذا وفي اليوم الثامن عشر أعلن التاريخ عن ميلاد جديد لأمة جديدة, تبزغ به من قلب العقد الاجتماعي, وتدخل به عصر الدولة الحديثة. المزيد من مقالات فتحى امبابى