الإبداع والابتكار سمتان من سمات التقدم والرقي، والدول الناهضة والمتقدمة يقاس مدى تحضرها ورقيها بما تحويه من أعداد المبدعين والمبتكرين فيها، لأنهم وحدهم القادرون على إحداث الطفرات التي تدفع ببلدانهم إلى مصاف الدول المتقدمة، وذلك من خلال رؤى متجددة تعالج المشكلات المستعصية على الحل والتي تعوق نهضة تلك البلدان بحلول جذرية، وفي مصرنا مورست خلال العقود الماضية محاولات حثيثة بغية قتل كل أشكال الإبداع والابتكار كان من نتائجها المؤلمة هجرة خيرة عقول هذا البلد فرارا من قتل مواهبهم ببيروقراطية عقيمة تعمل على غرس ثقافة الإحباط. وتلقفت تلك العقول النابهة دول تعرف للعلم مقداره وللموهبة والإبداع ثقلها ووزنها، ووفرت لها البيئة العلمية الصالحة للابتكار، وأزالت من طريقها كافة العراقيل التي تعترض إبداعها، وفرغتها تفرغا كاملا للدراسة وإجراء الأبحاث، فحصدت من ورائهم الكثير والكثير في بناء تقدمها واستمرار الحفاظ على تفوقها، ونسبت إبداعاتهم إليها، وفي المقابل خسرت مصر جهود علمائها ومبدعيها، والأمثلة على ذلك كثيرة كالدكتور أحمد زويل، والدكتور فاروق الباز، والدكتور مجدي يعقوب وغيرهم الكثير والكثير في شتى مجالات العلم والمعرفة. ومع قيام ثورة المصريين السلمية في الخامس والعشرين من يناير فإن الأمل يحدونا في أن تكون هناك ثورة في البحث العلمي وإطلاق العنان لمبدعينا كي يأخذوا بأيدي بلدهم مصر من خلال أبحاثهم ومخترعاتهم، إذ الثورة تعني الانتفاض على الطرق القديمة التي تدار بها عملية البحث العلمي في مصر ووضع سياسات مستقبلية جديدة تحفز على الاهتمام بالبحث العلمي، وتعمل على وقف الاستنزاف لمواردنا البشرية الخلاقة وتسير في اتجاهين، الاتجاه الأول عن طريق الاستفادة من علمائنا ومبدعينا المهاجرين الذين استفادت بخبراتهم دول أخرى، وذلك بالاستعانة بهم في التخطيط والإدارة مستقبلا للمشروعات الكبرى والقومية. أما الاتجاه الثاني فيتمثل في رعاية وتبني المبدعين الصغار والشباب، وتشجيعهم على البحث والدراسة، وتوفير البرامج العلمية المتكاملة التي تنمي مواهبهم وتوفر لهم البيئة البحثية السليمة من خلال أساتذة على درجة عالية من الكفاءة، وتذليل كافة المعوقات والصعوبات التي تعترض طريقهم وتحول دون الاستفادة القصوى منهم، وتجعلهم صيدا سهلا لصائدي المواهب، ولقد هالني وأدهشني أن شاهدت في أحد البرامج التليفزيونية شابا صغيرا لم يتعد الخامسة عشرة من عمره، لكنه ليس كأقرانه وإنما هو شاب نابه نابغة في أكثر فروع العلم صعوبة وهو علم الرياضيات، الذي على كثرة علمائنا في شتى فروع العلم إلا أن هذا العلم على وجه الخصوص لا يمثلنا فيه أحد على المستوى العالمي، فضلا عن تراجعنا فيه عالميا، وحتى عربيا فإننا في مركز متراجع وتسبقنا دول مثل تونس، هذا الشاب يحضر دروس الجامعة بصفة غير رسمية مع طلبة الماجستير بكلية العلوم جامعة القاهرة ويلاقي ترحيبا من الأساتذة لنبوغه، والأمر الأكثر دهشة أن هذا العالم الصغير كتب ثلاثة أبحاث في علم الرياضيات في كبرى الدوريات المتخصصة وحازت قبول القائمين عليها - وهم طبعا من العلماء – وفي سبيلها للنشر، وفي حين تفتح له إحدى الجامعات البريطانية التي تقدر النبوغ أبوابها على مصراعيها غير عابئة بسنه الصغيرة أو المرحلة الدراسية التي حصّلها في المدرسة، مع الوعد بتوفير كافة الإمكانات المادية والمعنوية له حتى يحصل على درجة الدكتوراة، نجد على النقيض البيروقراطية التعليمية في بلده تقف حجر عثرة في طريق نبوغه وتدفعه دفعا لهجرة بلده ليستفيد بعبقريته بلد آخر يقدر فيه المسئولون العلم والموهبة، فالقوانين الجامدة في مثل تلك الحالات النادرة لا يوجد بها ما يسمح له بالحصول على المقرر الدراسي خلال شهر، حيث بإمكانه تحصيل منهج عام كامل في شهر واحد، ومن ثم يختصر سنوات طويلة تضيع على أمثاله في شهور قليلة يتمكن بعدها من الالتحاق بالجامعة ويفعل بها نفس الشيء ويتفرغ لنيل الدكتوراة والانطلاق في فضاء الإبداع بما يعود بالنفع على مصر بلده. فالمأمول أن تُحدث الثورة فينا فعل التغيير لكل ما هو إيجابي والانتفاض على السلبيات، وأن نتعامل مع كل أمورنا بنظرة مغايرة لما سبق، لأننا إن لم نفعل ذلك فسنظل في نفس المربع الثابت في عالم يتحرك ويتغير ويغير من واقعه بخطوات واسعة نحو التقدم والرقي، وفي مجال البحث العلمي فإن المسألة أكثر إلحاحا لأن البحث العلمي هو القاطرة الواعدة التي ستقود التنمية في مصر، وطوق النجاة الذي سيأخذ بأيديها نحو العالم المتقدم. فماذا نحن فاعلون حتى لا تهجرنا الطيور؟ [email protected] المزيد من مقالات حسام كمال الدين