حملت تطورات الأيام الماضية في مشروع الدكتور أحمد زويل العلمي ما ينبئ عن أنه دخل طريقا يهدده بالانزلاق من فكرة عالية القيمة مطلوبة بشدة إلي زفة يبحث فيها الكثير من محترفي الطبل والزمر عن موطئ قدم بحيث يمنحهم البقاء تحت الضوء لأهداف لا علاقة لها بالعلم أو المشروع نفسه. وهو طريق نعرف جميعا أنه كان بداية النهاية لعشرات وربما مئات من الأفكار العظيمة المماثلة التي تزخر بها ذاكرة الوطن لأجيال متعاقبة, بدأت براقة نبيلة وانتهت ككومة من القش, حجم وضجيج بلا وزن, ثم تلاشت وتبعثرت مع هبوب أول رياح غير مواتية, وتقديري أن هذا أول تحد يواجه المشروع في مرحلته الراهنة, خاصة فيما يتعلق بقضايا تكنولوجيا المعلومات التي يتوقع أن تشكل جانبا مهما من أنشطته مستقبلا. ومن يراجع ما نشر بالصحف المطبوعة والمواقع الإلكترونية والفضائيات حول المشروع منذ مجيء الدكتور زويل للقاهرة في زيارته الحالية, يجد أمامه محتوي إعلاميا يتحدث عن الأماني والأحلام بصورة متطرفة, ترفع التوقعات وتضخم الأمر كثيرا, فبعض العناوين والمقالات والآراء تتحدث عن نقلات نوعية هائلة تنتظر الحياة بمصر, وتغيرات ضخمة في ثرواتها ومستقبلها في مدي زمني قصير, وهو ما يجعل من المشروع وصاحبه سحر وساحر, وليس علم وعالم, وهو أمر لا يرضي عنه صاحب المشروع نفسه فيما أعتقد. وإذا ما أخذنا ما نشر وأزلنا عنه ركام الأماني الجامحة, والطبول الزائدة عن الحد, بحثا عن أول الموضوع وآخره بالصورة التي تسمح باقتراب هادئ من الرؤية العامة للمشروع ورسالته ومنهجيته واستراتيجياته وخططه ومراحله الزمنية ومصادر تمويله وأوجه إنفاقه ومعايير التعامل مع عوائده المتوقعة, ونطاقات عمله المحددة, ووسائل القياس الموضوعية التي تقودنا إلي مناطق القيمة الحقيقية في أنشطته ووحداته بمعيار التكلفة مقابل العائد, والتحسن الوطني والمجتمعي بمعيار الزمن, لو فعلنا ذلك سنجد أن الدكتور زويل لم ينته منه بعد, بل هو في مرحلة يطرح فيها خطوطا عامة, ولم يصدر وثيقة جامعة تشرح كل الأبعاد السابقة علي نحو يبني مشاركة حقيقية في صنع القرارات المتعلقة بهذا المشروع الوطني الكبير. والجملة الوحيدة التي سمعتها وقرأتها للدكتور زويل عن صلب الموضوع جاءت خلال زيارته للأهرام, حينما أوضح أنه سيتبني منهجية في العمل تبدأ باختيار نوابغ الثانوية العامة ليدرسوا في بيئة علمية أكاديمية راقية, ثم يدخلون بيئة بحثية راقية عبر حاضنات علمية وتكنولوجية, ثم يخرجون بأفكار وحلول ومنتجات للأسواق, وهي منهجية سنعود إليها تفصيلا فيما بعد. ولعل القرار الوحيد الذي اتخذ لكبح جماح الانزلاق من الفكرة إلي الزفة, كان قرار المجلس الأعلي للقوات المسلحة حينما أقر بالفكرة, ونقل مسئولية دراستها وتمحيصها والموافقة النهائية عليها للبرلمان المنتخب, بعد أن يكون الدكتور زويل قد انتهي من جميع دراساته وتحليلاته حول المشروع. كان المتوقع والمنطقي أن تكون هذه رسالة واضحة للجميع بأن أي سلطة بما فيها السلطة العليا في البلاد الآن لا تقبل وليس من حقها أن تسلم مصر أو تسلم جزءا من مقدراتها ومستقبلها علي بياض لأي شخص كائنا من كان, لأن صاحب السلطة في هذا الأمر هو الشعب نفسه, ممثلا في برلمانه المنتخب انتخابا حرا نزيها, والذي من حقه أن يحصل علي الفرصة كاملة لأن يفكر بهدوء, ويشارك بفعالية, ويقوم بواجبه في البحث عن القيمة الحقيقية للمشروع والتعامل معها في نطاقها الطبيعي خارج الزفة. من الشواهد الدالة علي خطر الانزلاق إلي الزفة والابتعاد عن الفكرة أن هناك أشياء نشرت وجري إسنادها للدكتور زويل نفسه بغض النظر عن الدقة في الاستناد حملت معاني تخاصم الواقع العلمي والبحثي القائم حاليا بالبلاد, وبدأت تثير همهمة واستياء لدي قطاع واسع من الأساتذة والباحثين وغيرهم من العاملين بمراكز البحث العلمي القائمة, ممن باتوا يرون أن هذه المعاني تبث فيهم روح الإحباط والإحساس بالدونية وقلة أو انعدام الفائدة, بل إن بعض ممن يصنعون الزفة المفتعلة اعتبر أن ما يجري من أنشطة بحثية في البلاد قيمتها صفر ولا تستحق الوقوف عندها بأية صورة في المشروع الجديد, وأنها ستكون وبالا علي المشروع, فهي أنشطة متخلفة عن عصرها, ضامرة في إنجازاتها, وفاقدة للثقة في نتائجها لابتعادها عن القواعد العلمية العالمية إلي غير ذلك. لقد تطرف البعض في المزايدة علي الدكتور زويل وأسند إليه قوله أن مصر سوف تبدأ تصدير التكنولوجيا بعد عدة سنوات حينما يعمل المشروع, وهذا لو كان صحيحا فهو يعني هدرا لأكثر من عشر سنوات من العمل والشقاء والتفاني, قام بها شباب ومسئولون في الكثير من مراكز التميز العلمي القائمة حاليا, خاصة في قطاع تكنولوجيا المعلومات والتي باتت مصدرا رئيسيا لصادرات البلاد من التكنولوجيا, وإذا زار الدكتور زويل مركز القاهرة للتطوير التكنولوجي بشركة آي بي إم علي الطريق الصحراوي سيعرف أن بضعة مئات من شباب مصر يصدرون تكنولوجيا متخصصة في تأمين السيارات بملايين الدولارات سنويا من هذا المركز, ويتم تركيبها في سيارات مرسيدس وبي إم دبليو الفاخرة جدا, ويستخدمها أصحاب هذه السيارات حول العالم, وبإمكانه أن يتجول قليلا في مركز التميز العلمي لشركة أورانج بالقرية الذكية ليري ما الذي يبدعه شباب المركز في أكثر مجالات بناء وإدارة شبكات المحمول من الجيل الرابع تقدما, بل أقول أيضا أنه ربما لم يسمع بأن مركز إنتل للتميز وفرعها في مصر كان وراء شراء إنتل العالمية لشركة مصرية منذ أسبوعين يعمل شبابها في تطوير شرائح إلكترونية بالغة الدقة والتقدم وبنفس المستوي الذي يفعله ويبدعه نظراؤهم الأمريكيون في وادي السيليكون. إن منطق الزفة في التعامل مع مشروع زويل بات ينذر بالتحول إلي نفاق ممجوج أعتقد أن الدكتور زويل لا يقبله, لأنه يجعل المشروع يتعامل مع مصر باعتبارها صحراء علمية قاحلة لا بحث فيها ولا تفكير علي الإطلاق, وهذا عبث مطلق, وإذا ما سار الأمر علي هذا النحو فمعني ذلك أن مشروع زويل سيدخل إلي الساحة باعتباره واحة التفكير والإلهام في صحراء الخرافة والتخلف وانعدام التفكير, وخطورة ذلك أمران: - الأول أنه سيجعل المشروع يبدأ من الصفر في كل شيء, ويحرمه من موارد علمية وبحثية متراكمة وضخمة ومتنوعة قائمة, يمكنه البناء عليها والاستفادة بها بل والدخول معها في مشاركات حقيقة علي قاعدة الند للند, لتحقيق أهداف وطنية كبري. ويمكننا في قطاع تكنولوجيا المعلومات أن نسوق عشرات الأمثلة في هذا الصدد, وسأكتفي هنا بالقول بأن مشروع زويل كمشروع للنهضة العلمية كما أعلن عنه- يتعين عليه أن يوجه القسم الأكبر من طاقته العلمية والبحثية والأكاديمية نحو التوصل لحلول ومنتجات مبدعة قابلة للتوظيف قطاعيا داخل المجتمع, خاصة فيما يتعلق بالجوانب الحياتية من صحة وتعليم وزراعة وتصنيع وخدمات, لتفتح آفاقا جديدة في التعامل مع المشكلات التي تعاينها هذه القطاعات, كمشكلات الرعاية الصحية الوقائية والعلاجية والتعليم الإلكتروني والتعليم عن بعد والآفات الزراعية والسلالات الجديدة من المحاصيل واختناقات المرور وترشيد الطاقة والحفاظ علي البيئة وغيرها, وهذا المسار له تشابكاته وتعقيداته المسئول عنها آخرون في قطاعات المجتمع المختلفة, وهنا لابد من مشاركة حقيقيه مع الخبرات العلمية والمعرفية المتراكمة عبر سنوات طويلة في بيئة البحث العلمي المحلية بكل من قطاع تكنولوجيا المعلومات والقطاعات الأخري, للوصول بسرعة إلي منجزات ذات قيمة مجتمعية, تحظي في الوقت نفسه بالقبول وسهولة التطبيق, وليس فقط الوصول لقيمة علمية ذات سمعة عالمية, فنحن مثلا ليس لدينا الآن فرصة للوصول إلي حل علمي تطبيقي يرتكز علي الفيمتو ثانية لحل مشكلة هنا أو هناك. - الضرر الثاني أنه يقدم المشروع للمجتمع البحثي المحلي خاصة في تكنولوجيا المعلومات بمنطق التعالي والنظرة الدونية لكل ما هو قائم, وهي نظرة وصلت علي لسان البعض ممن كتب أو تحدث إلي مستوي السخرية, ولنا فيما حدث ويحدث مع جامعة النيل خير دليل, وبالتالي فإن المشروع سيبدأ العمل في بيئة علمية غير صديقة, تناصبه التوجس وعدم الارتياح وعدم الرغبة في التعاون, لأن من يعملون في البيئة العلمية القائمة في النهاية باحثون ومواطنون وآدميون, لديهم حرص طبيعي علي كرامتهم الإنسانية والمهنية, التي بالقطع لن تضيع وتذوب تماما أمام من يبعث لهم برسالة التعالي والسخرية في زمن الثورة والحرية قبل أن يضع طوبة علي الأرض, بينما هم يعايشون القهر والمر وشظف العيش لعقود طويلة, ولست في حاجة إلي التأكيد علي أن وجود بيئة محيطة غير صديقة لن يكون في صالح مشروع زويل علي المدي الطويل, وسيكون عنصر إقلاق وعدم استقرار للمشروع لا يستهان به. لذلك كله فإن واجبنا جميعا الآن التعبير عن قبول الفكرة والمشروع وكفي, بلا طبل أو زمر, ومن حق الدكتور زويل أن يأخذ وقته وأن نمنحه فرصة للانتهاء من الخطة المتكاملة التفصيلية للمشروع, حتي يعرض علي البرلمان المنتخب بكل شفافية, وبعدها علينا أن نتعامل مع المشروع بهدوء وروية ومشاركة حقيقية, لا تتوقف عند فتح الصدور والقلوب والحناجر عن آخرها, وإلقاء مهام التفكير والتخطيط والإبداع علي عاتق زويل وحده.