سقف أحلامنا!! لا تقنعني أرجوك بأن عقل اينشتاين حين الحلم هو نفس عقل أحد سكان العشوائيات حين يحلم, ونحن لا نتكلم هنا عن ميكانيكية التفكير نفسها في شيء, وإنما نحن نتكلم عن سقف الحلم, فالحلم لاشك هو الحلم في دهاليز أي عقل بشري, وهو انطلاقة رحبة تتمرد ولاشك علي الواقع أيا كانت مشكلاته وعوائقه وظروفه, وتنطلق بلا حدود إلي آفاق أبعد من الواقع وهي في ذلك لا يمكن أن تعترف به بأي حال من الأحوال, وكيف تعترف به وهي تتمرد عليه; ثم كيف يكون الحلم حلما إذا ما ارتبط بالواقع ولم يتمرد عليه؟ نحن إذن أمام انطلاقه ترنو نحو واقع مختلف من المفترض أن يكون إلي الأفضل, وكلما انطلق الحلم من قاعدة الواقع كان أقرب إلي التحقق, وكلما ابتعد عن الواقع اقترب ولاشك من الهلاوس!! ولكن ماذا لو أن الحلم لم يخرج عن أضيق حدود الواقع; كأن تكون طبيبا مثلا فتحلم لو أنك أصبحت طبيبا؟ أعتقد أن خللا شديدا يشوب ميكانيكية حلمك حينئذ, او ربما تكون الحقيقة هي أنك لا تعرف كيف تحلم أساسا وتلك مسألة أخري!! وأنظر إلي مرآة الأغنيات التي انطلقت بعدما انطلقت شرارة ثورة25 يناير وتأججت, فألمح واقعا غريبا بعض الشيء; فالأغنيات في جوهرها خليط من حزن قديم, وهذا أمر مشروع, وأمل في التحفيز من أجل مستقبل جديد, وهذا أيضا أمر مشروع, ولكن, كيف يتجسد حلم التحفيز هذا في تلك المرآة؟ وماذا يعكس تحديدا؟ وإلي أي مدي حلق الحلم وإلي أي مدي غاص في أعماق الواقع؟ الحقيقة هي أن الحلم المصري كما ينعكس في مرآة الفن الذي أفرزه المجتمع في هذه الحقبة بالذات قد أسقط في يده, فما عاد الحالمون قادرون علي التحليق بالمرة, وإنما انخرطوا ليس فقط في الحلم في حدود ما هو موجود علي أرض الواقع, وإنما في الغوص إلي قاع هذا الواقع غوصا بنظرة تتفحصه وتضيف عليه رتوشا تجمله وتبرره وتمرره, وكأن ذلك هو أقصي ما يمكن أن يبلغه المصريون حين يحلمون.. ومن ثم فإن ما لم يدركه هؤلاء للأسف هو أنه أنهم عجزوا للأسف عن الحلم فلم يستطيعوا أن يبرحوا الواقع أبدا, أما الأكثر أسفا فهو أنهم لم ينتبهوا إلي أنهم لم يحلموا أصلا!! إمرأة فقيرة تحيك بعض شباك لصيد الأسماك, وعائلة تحت خط الفقر تبحر بقارب متهالك لتصطاد السمك في نيل الريف, وأخريات يجتثن الزراعات في موسم الحصاد باستخدام آلات بالية; وصانع ماهر يطرق لفائف النحاس في ورشة عتيقة; وعاملات جلسن من وراء ماكينات خياطة في أحد هناجر مصنع للملابس الرثة, وباعة متجولون يسرحون بأعقاد الفل والياسمين في إشارات المرور; ومجموعة من شباب تنظف الشوارع; ومجموعة أخري تطلي الأرصفة بشريحة سوداء وأخري بيضاء من غير سوء; بينما مجموعة أخري من شباب وغير ذلك يلعبون الطاولة علي أحد المقاهي; وبائع ودود يناولهم بعض المشروبات الساخنة; وبعض صبية يلهون علي بعض درجات سلم متهالك في أحد الأزقة التعسة; وبعض صبية أخر يبتاعون عصي تحمل علم مصر; أما المشهد الرئيسي المحرك لكل ذلك فهو دائما المظاهرات الموحية بتراشق وشيك مع الشرطة; أما المشهد الأوسع الدائم فهو لا يخلو من إشارة للهرم أو أبو الهول تنسكب علي المشاهد بين الحين والحين بمذاق التاريخ!! هذه هي عموم مشاهد الحلم المصري المحفز للغد الأفضل.. حلم لا علاقة له بالمستقبل من قريب أو بعيد.. حلم حصر الأماني في بعض من صناعات وأنشطة وتجارات أكل عليها الدهر ثم شرب,فعفي عليها الزمان وطواها في سجلات الكتب!! هكذا جاء الحلم, فكيف خرج الواقع المحيط إذن بعيدا عنه؟ انتشار غير طبيعي لعربات الفول في كل ربوع الوطن, وانتشار لا يقل إن لم يزد لعربات حمص الشام والحلابسة; وباعة كانوا متجولين في يوم من الأيام فما عاد التجوال هدفهم, وإنما استقروا استقرارا علي جميع الأرصفة يبتاعون الوهم ذاته للمارة, من بعد أن تجاوزوا عقدة البلدية تماما وارتاحت ضمائرهم, وما أدراك ما عقدة البلدية: مباغتات ومصادرات ومطاردات في الشوارع الرئيسية والجانبية, يحكم الباعة بشأنها سيم وشفرة لا يعرفها إلا هم, فما أن تلوح سيارات الحملة, حتي يتبادلون صفارات ونداءات تحيي الموتي أنفسهم, فيهرولون بألواح البضاعة مسرعين, وتتطاير البضائع من فوقها ذات اليمين وذات الشمال, ولكن أحدا منهم لا يبالي حينئذ, فزميله المهرول من ورائه بلا شك قادر علي أن يلملم مثلها في أثناء العدو, أما المهم والأهم فهو أن يفلت الجميع من قبضة رجالات البلدية الأشاوس في هذه اللحظة بالذات!! هكذا المشهد للأسف علي أرض الواقع حاليا, وأخشي ما أخشاه أن نكون سببا مباشرا اذا ما استمر حالنا علي هذا المنوال في اعادة تصنيف دول العالم من بعد تصنيفها إلي عالم متقدم وعالم ثالث إلي دول بجد وهي دول تملك مقومات الدول المتعارف عليها; ودول مزارات وهي دول قد ورثت بعض المزارات الأثرية واشتغل أهلها بحرف لا معني لها فاستحقت الزيارة ولو علي سبيل الاستكشاف والدراسة والتأمل والوقوف علي مدي معاناة الإنسان القديم!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم