قد لا أبالغ كثيرا إذا قلت ان الفكرة التي سادت منذ زمن طويل والتي لم تتغير كثيرا حتي الآن بين أوساط المتهمين بشئون المسرح هي أن اليونان القدامي هم الذين خلقوا هذا الفن وأن ماقام به المصريون في العصر القديم في هذا المجال. لايعدو أن يكون نوعا من العروض الدينية البدائية لايرقي إلي مستوي الأعمال الدرامية. وفي هذا السياق فإن التساؤل الذي يطرح نفسه هو: هل أسهم المجتمع المصري في فن المسرح في العصر القديم؟ والتساؤل بهذه الصورة قد لايدعو, في بساطته, إلي أن نتوقف لديه طويلا سواء في حالة المعارضة أو التأييد, فبوسع من يعارض ان يشير إلي حقيقة ثابتة: هي أن علماء الآثار لم يكتشفوا في مصر حتي الآن مبني واحدا يمكن ان يوصف بأنه مكان مخصص للعروض المسرحية, كما هو الحال في بلاد اليونان حيث لايزال عدد غير قليل من المسارح الهائلة قائما منذ العصر القديم في عدد من المدن اليونانية, كذلك لم يظهر في مصر حتي الآن نص واحد يمكن أن يوصف بأنه نص مسرحي خالص دون ان تكون له في الوقت ذاته صفة دينية أو شعائرية, أما علي الجانب الآخر, فبوسع المؤيدين ان يردوا بأن وجود مكان مخصص للعروض المسرحية أمر غير مفروض بالضرورة, فقد مارس المجتمع الإنجليزي والمجتمعات, الأوروبية نشاطهم المسرحي في العصور الوسطي وعصر النهضة دون ان يحتاج العرض المسرحي لاكثر من غرفة أو غرف يغير الممثلون فيها ملابسهم, ولأكثر من مدرجات خشبية متنقلة لجلوس المشاهدين كذلك فإن الصفة الدينية للمسرح لاتنتقص طالما التزم الكاتب والمخرج والمؤدي بمواصفات العمل المسرحي. علي أن ثمة امرا جد مع بزوغ القرن العشرين كان من شأنه أن يقود في نهاية الأمر إلي طرح التساؤل الذي نحن بصدده في صورة جديدة اكثر تفصيلا ومن ثم أكثر تغطية للموضوع قيد الحديث, ففي عام1900 آثار الباحث الفرنسي جورج بينيديت موضوع المسرح المصري القديم من منظور جديد.. ذلك أنه لاحظ ان الطقوس الدينية التي كانت تقام في الأعياد تكريما للإله أوزيريس, إله الحصاد في مصر, كانت تستدعي قدرا من التمثيل والحوار وهو أمر كان من شأنه أن يؤدي الي المقارنة بينها وبين العروض الإنشادية التي كانت تقام في بلاد اليونان احتفالا بإله الحصاد والكروم اليوناني ديونيسيوس, وهي العروض التي تطورات لتصبح أساسا للمسرح اليوناني القديم, ومن ثم الي افتراض تطور مماثل في مصر. ونتيجة لهذا الافتراض فقد شهدت الفترة التالية له والتي امتدت عبر القسم الأكبر من القرن العشرين قدرا غير قليل من الخلاف العلمي بين المنكرين لوجود المسرح المصري القديم وبين المتحمسين له, وفي ثنايا هذا الخلاف العلمي, ومن خلال مايمكن ان نضيفه إليه قد يكون في وسعنا أن نقول إن فض هذا الخلاف يكمن في الرد علي تساؤل رئيسي هو: هل وصلت إلينا نصوص من مصر القديمة أو عنها تتوافر فيها مواصفات الكتابة المسرحية أو تشير الي هذه المواصفات؟ وفي هذا السياق فإن النصوص التي اكتشفت حتي الآن والتي قد تتعلق بالفن المسرحي تقدم عددا من المواصفات التي تنطبق علي هذا الفن, وإحدي هذه المواصفات هي أن الكاتب كان يقدم التعبير المستخدم في النص في صورة حوار قصير وسريع في أغلب الأحوال وليس في صورة السرد.. كما هو الحال في لغة الخبر أو القصة أو في تدوين الأحداث والأفكار, والمواصفة الثانية هي أن أسماء الشخوص أو المتخاطبين كانت تكتب متبوعة بعبارة جد مدو أي تقال هذه الكلمات.. وهو أمر يساوي علامة التنصيص التي نرمز إليها الآن بنقطتين إحداهما فوق الأخري وذلك قبل كتابة الحديث المتبادل بين المتخاطبين.. أما ثالثة هذه المواصفات فهي الإرشادات الخاصة بتحركات الممثلين, وهو مايساوي إخراج المسرحية هذا ولم تقتصر مواصفات المسرحية علي هذه الجوانب, وإنما تجاوزت ذلك إلي الالتزام بالتوجه العام للعمل المسرحي.. وهنا نلاحظ علي النصوص المذكورة أنها تبرز التناقض الذي يتضمنه الموقف أو الحدث المسرحي والذي يؤدي إلي الصراع الذي تقوم عليه المسرحية وهو أمر نستنتجه بوضوح من حديث المؤرخ اليوناني هيرودوت الذي زار مصر في أواسط القرن الخامس ق.م ووصف لنا في كتابه عن التحقيقات الباب الثاني, الفقرة63 أحد الأعياد الدينية التي تضمنت تمثيلية تقوم خلالها مجموعة من الكهنة بنقل صورة للإله أوزيريس من معبده إلي مكان مقدس آخر وفي اثناء ذلك تتصدي لهم مجموعة أخري من الكهنة الذين يحاولون منعهم من ذلك, وبعد معركة بين الجانبين تنجح المجموعة الأولي في توصيل الصورة الي المكان المنشود. وتبقي كلمة أخيرة: إن بعض النصوص المصرية التي التزمت بالمواصفات المسرحية, كتبت أو نقشت في الماضي السحيق. وعلي سبيل المثال فإن النص المنقوش علي حجر شباكا( نسبة إلي احد ملوك الأسرة25) اتفق الباحثون, بناء علي شواهد علمية, علي أنه إعادة لنص يعود إلي فترة مبكرة في الدولة القديمة بعد القرن28 ق.م بقليل وهو أمر نستطيع أن نقدره حق قدره.. إذا عرفنا ان بلاد اليونان بدأت خطواتها الأولي علي طريق التطور نحو العروض المسرحية في القرن السادس ق.م وشهدت أولي مسرحياتها في القرن الخامس ق.م.