لعل من أهم ما ميز ثورة الخامس والعشرين من يناير, هو توجهها القومي والسلمي, فالشعارات التي تصدرت الثورة كانت مصرية بامتياز, وأيضا التلاحم الوطني الذي تجلي في أبهي صوره, ليس في ميدان التحرير فقط, بل في مختلف المحافظات, لقد كان نموذجا جديدا لتطور العلاقات الإسلامية المسيحية في مصر. ومن هنا كان حماس كل المصريين لهذه الثورة, ولم يشعر الأقباط لحظة بالخوف من سقوط النظام الذي أوهمهم عبر السنين بضمان سلامتهم واستقرارهم, رغم كل ممارسات التمييز التي تعرض لها الأقباط في النصف الأخير من القرن الماضي ورغم ذلك شارك الأقباط بكل قوة في الثورة, واستشهد منهم الكثيرون في سبيل حرية مصر. ومع تعدد مواقف التيارات الدينية كان هناك ثبات شعبي في التحرير وجميع المدن المصرية, فلقد أدرك المصريون أن هناك لحظة تحول حاسمة سوف تحدث في مصر, فلم يكن أحد يتصور أن مظاهرات يوم25 يناير يمكن أن تغير مصر في ثلاثة أسابيع!! فأنا واحد من الذين لم يعرفوا بالإعداد لهذه الثورة ولم أدرك أبعادها إلا يوم الجمعة28 من يناير, ورغم ذلك فالثورة لم تكن ثورة إلا بعد أن انضم إليها الشعب المصري بكافة فئاته وأديانه وأعماره. والنظرة العميقة لثورة25 يناير تؤكد أنها ثورة ما بعد الحداثة, بمعني أن الثورة ليس لها قائد واحد, فهناك غياب للمركز, وكذلك فهي استخدمت آليات ما بعد الحداثة, كالإنترنت والمحمول. كما أنها ثورة ما بعد الحداثة في لغتها المستخدمة, فالتركيز علي الهوية المصرية وربطها بالكرامة من خلال شعار ارفع رأسك.. أنت مصري, وكذلك ربط الديمقراطية بالعدالة الاجتماعية, والتأكيد علي أهمية الدين من خلال صلاة الجمعة, كذلك خدمة ترانيم يوم الأحد, هذه كلها دلالات ما بعد حداثية حول دور الدين والهوية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في صياغة الإنسان. هذه العوامل وغيرها أسهمت في بناء رؤية جديدة للثورة المصرية, باعتبارها ثورة وطنية ذات توجه قومي يشارك فيها المجتمع المدني بعلاقة جديدة نحو الدين والمجتمع, هذه العلاقة تأكدت في ميدان التحرير, من خلال التجمعات المختلفة والممارسات اليومية والتلاحم بين المواطنين. من هذا المنطلق فإن أحداث أطفيح وأبو قرقاص وإمبابة, هي بمثابة ردة عن التوجه الحقيقي للثورة, كما أنها محاولة لخنق الدولة المدنية وإعادة صياغة دور جديد لبعض الجماعات الدينية, مؤسسة علي استبعاد الآخر, ومحاولة فرض نموذج أحادي واحد يتعارض مع طبيعة هذه الثورة ما بعد الحداثية. إن أحداث إمبابة وغيرها من الأحداث الطائفية تشير أيضا إلي عدد من الدلالات المهمة التي يجب التوقف أمامها, بهدف كشفها ومواجهتها, وذلك من أجل استمرار تلك الروح الثورية التي يمكن أن تقود مصر إلي دولة مدنية حديثة فاعلة علي المستوي المحلي والدولي. لقد رأينا أن البعض أعطوا لأنفسهم حق الوصاية علي عقول الناس, متصورين أنهم قادرون علي الحكم علي العباد. فالإيمان حق فردي لا يمكن إرغام شخص به وممارسته كذلك. كما لا يجوز إهدار إيمان أي شخص كان. ومن هنا لابد من التأكيد علي أهمية حرية العقيدة, فالاعتقاد أمر فردي وهو بمثابة علاقة مباشرة بين الانسان والله سبحانه وتعالي, والله وحده هو الذي يعرف أعماق الإنسان, لذا ليس من حق أي إنسان أن يعطي نفسه الحق في الحكم علي الناس أو إجبارهم أو تخويفهم. ومن هنا تأتي أهمية الدولة المدنية التي تحترم الأديان وفي نفس الوقت تحمي حرية الاعتقاد وتؤكد حق الفرد في اختيار ما يؤمن به. إن ربط الاختلاف الطائفي بالعنف يسيء إلي المؤمنين ويخلق مناخا حادا يغيب عنه السلام الاجتماعي والعيش المشترك, فالعنف سوف ينتج عنفا أخطر. ولعل كلمات السيد المسيح عن أهمية مواجهة الشر بالخير هي خير دليل علي أهمية مواجهة العنف ببناء السلام وتعزيز العمل المشترك. وهنا تأتي أهمية دور المجتمع المدني الذي يمكن أن يسهم في خلق أرضية جديدة للمشاركة, كما أنه يعزز التفاعل الإيجابي بين أبناء الوطن الواحد, ويسهم في موقف يتجاوز الشعارات ويسعي إلي التقدم, ولعل ما حدث في ميدان التحرير هو نموذج عملي لهذا التلاحم الوطني. إن التعددية التي شاهدها ميدان التحرير والتفاعل بين مختلف الاتجاهات الليبرالية والدينية أسقطت نظاما لم يتصور أحد أنه كان يمكن أن يسقط, وهذا هو عمق ثورة يناير. إن الذين يحاولون سرقة الثورة هم واهمون أيضا, فدماء شهدائها وآلام جرحاها وتعدديتها لابد أن تعيد بناء مصر من جديد. المزيد من مقالات القس اندريا زكى