البحث عن أصول المستقبل يجمع بالضرورة بين مقومات حياة الأمة في الداخل وتحركها في الخارج, ولعل انتشار الفوضي في الداخل منذ شهور يتنافي مع البحث عن ساحة التحرك الخارجية, علي اعتبار أن ترتيب المنزل أولا وقبل كل شيء يتنافي مع التنقيب عن مكانة مصر علي ساحة صياغة العالم الجديد. وعندنا أن هذا الموقف يدعم مخطط الأعادي لتأكيد تحجيم مصر وانزوائها برغم التباهي بأن تحرك شبابنا وشعبنا فتح الطريق أمام شعوب العالم العربي. أولا: تحرك رئيس الوزراء الي مجموعة دول التعاون الخليجي, علي اعتبار أنها تمثل العالم العربي شريك مصر, وكأن دول المغرب والشرق الأدني, من المغرب الي العراق من كوكب آخر, وقد بلغ به الحماس أنه ترك مأساة قنا تتفاقم وكأنها من اختصاص دولة أخري.. ولعل تفسير ذلك أن دول النفط الثرية تستطيع أن تعين علي دعم الاقتصاد المصري الجريح.. ثانيا: وفجأة أدركت الدوائر الرسمية أن مصر تمادت في إهمال محور الحياة منذ عقود, ثم اضطرت أن تصحو بعد قرارات دول المنبع لإقامة السدود علي مصادر مياه النيل في إفريقيا الشرقية والوسطي فجأة أدركت الحكومة أن مصر ابتعدت عن بعدها الحياتي منذ عقود, برغم جهود ومهارات ممتازة منذ بناء السد العالي حتي عبور اكتوبر. لم يتبادر الي ذهن الحكماء, أن هناك علاقة بين الاندفاع الي رفع الدائرة العربية الي المكانة الأولي في تحرك مصر من ناحية وإهمال دائرة النيل الإفريقية الحيوية من ناحية أخري, ولا تساؤل, ولا تحليل, ولا مراجعة ولا دراسة مقارنة.. لا شيء, وكأن مسألة اهمال محور النيل من الأمور الثانوية برغم أنه مفتاح وجود شعب مصر علي أرضنا المحروسة. توالت البعثات الرسمية والشعبية, الي السودان شمالا وجنوبا ودول المنبع, بعد عقود من الاهمال, وكان المفروض أن يكون التركيز مع السودان علي إثيوبيا في المقام الأول, ثم الاتصال بإثيوبيا والحمد لله بعد طول غياب, ثم كانت زيارات إفريقية أخري من باب المجاملة أضعفت من التركيز علي إثيوبيا بوصفها مفتاح تأمين مياه النيل. وعلي كل حال, كانت هذه بداية يجب تطويرها علي أساس الخبرات العلمية المتوافرة لدي الخبراء المصريين. ثالثا: والآن يعلن مسئولون أن مصر سوف تتجه الي عقد اجتماعين مع الولاياتالمتحدة وأوروبا لبحث دعم الاقتصاد المصري, نفس الدعوة ونفس التوجه الذي سمعناه دون انقطاع منذ ثلاثة عقود. الغريب المدهش أن هذا التحرك يبدأ الي دولة الهيمنة الأمريكية التي يعلم الجميع أنها أول من تفيد من ضعف الدول القادرة علي استقلالية القرار والتحرك في العالم أجمع خاصة في عالمنا العربي, وقد ذكرت الصحف منذ قليل أن مصر رفضت شروط الدعم الأمريكي كيف يمكن إذن تفسير الإصرار علي نفس التوجه؟ ثم الاتجاه الي أوروبا, الذي لا غبار عليه من حيث المبدأ, إن منظر ساحة اقتصاديات عدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي, ايرلندا واليونان والبرتغال في المقام الأول, يكشف أن الدول الثرية ألمانيا ثم فرنسا, والدول الاسكندنافية تتردد في مد يد العون لشقيقاتها في الاتحاد الأوروبي, كيف يمكن أن نتصور إذن أن مصر سوف تلقي العون الاقتصادي الصادق؟ مرة أخري, المرة تلو المرة, يدور أصحاب القرار في دائرة الماضي الذي لم يقدم لنا إلا التبعية والضعف, بل وواجهنا بالعدوان أيام تأميم القناة والسد العالي وعبور اكتوبر, ثم كيف لم يطالع الخبراء والمسئولون حوليات مبادرة الصين لدعم اقتصاد اليونان وايرلندا بحيث أصبحت الصين تمثل مصدر الأمل في تثبيت أركان اقتصاد الدول الأوروبية, وذلك حسب رأي الخبراء والصحافة الجادة في أوروبا؟ رابعا: نعود الي ساحة العالم الجديد الذي يتشكل من حولنا بشكل ساطع, مراكز الخبرة العالمية وصياغة القرار تجمع علي أن الصين سوف تحتل المكانة الأولي في الاقتصاد العالمي نحو عام6102, وكان الأمر علي هذا النحو ربما أمكن أن نتحرك مع حركة التاريخ, وهذا وزير خارجية الصين يزور ديار مصر علي رأس وفد رسمي منذ أسبوعين, ويعرض الشراكة الاستراتيجية بين البلدين, مادامت مصر كانت أولي دول العالم العربي التي اعترفت بالصين سنوات قلائل بعد انتصار الثورة وتأسيس جمهورية الصين الشعبية. خامسا: ومادام الحديث عن الصين ودورها الريادي في صياغة العالم الجديد, فلعله من المناسب أن نشير الي ساحات تجمع القوي الجديدة الصاعدة التي يجب أن ندركها والوصول إليها بالمشاركة, هذا لو أردنا أن يكون لمصر مستقبل فاعل في صياغة العالم الجديد. 1 هناك أولا مجموعة الدول الكبيرة الصاعدة في عالم الاقتصاد المعروفة باسم ال بريكس البرازيل, روسيا, الهند, الصين, جنوب إفريقيا, وقد أجمع الخبراء أخيرا علي أن الصين تحتل المكانة الأولي في هذه المجموعة, بحيث انها في مكانة تمكنها من تعبئة طاقات دول هذه المجموعة بشكل مؤثرا وفي تناسق واقعي معقول. ولو راجعنا قائمة هذه الدول ومكانة مصر بالنسبة لها لأدركنا أن علاقتنا بروسيا والهند والصين تمت الي أركان تحركنا منذ نصف قرن مضي, بينما تجمعنا أواصر الصداقة مع جنوب إفريقيا, وقد دخلت البرازيل الي ساحة اهتمامنا الشعبي والرسمي بفضل ريادة رئيسها التاريخي لولا داسيلفا. 2 ثم هناك مجموعة شانجهاي تأسست هذه المجموعة منذ1002, وهي الآن تتكون من مجموعة الدول الأعضاء الست أي روسيا والصين وكازاكستان وكيرغيزستان واوزبكستان وتادجيكستان ومعها الدول المشاركة الهند وايران وباكستان ومنغوليا, ثم دولتي الشراكة في الحوار أي روسياالبيضاء وسريلانكا. وأخيرا مجموعة الضيوف المشاركين في اجتماعات المنظمة: أفغانستان وتوركمينستان واتحاد أمم جنوب شرق آسيا( آسيان) ودائرة الدول المستقلة( من بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقا) ثم منظمة المؤتمر الإسلامي. أمام مصر ساحة واسعة من الاختيارات وان أمامنا واجب المشاركة مع هذه المنظمة التي تمتد من قلب أوروبا الي المحيط الهادي شرقا والمحيط الهندي جنوبا, ولنا مع معظم دولها تاريخ طويل من المشاركة من أيام منظمة التضامن الأفروآسيوية ثم وخاصة منظمة عدم الانحياز وبها أكثر من نصف سكان المعمورة. ساحة هائة, بكل معاني الكلمة, تمتد أمامنا لنتحرك الي جديد العالم بدلا من الانكماش والدوران في الدوائر المفرغة. قال صاحبي: أرجو أن يتجاوب مع دعوتك جميع المعنيين: الحكومة بطبيعة الأمر, وكذا الأحزاب السياسية, ومراكز البحث والصحف والجامعات.. ومستقبل مصر مسئولية جميع المصريين.. أليس كذلك؟. المزيد من مقالات د.أنور عبد الملك