قد لا ينتبه الكثيرون منا إلي أن التفكير بالاسطورة والحدوتة والحكاية مبدأ أصيل في تكوين الشخصية المصرية من قديم الأزل, ففي انتظار الحصاد يروق للفلاحين خيالهم الأخضراني الخصيب. فيرسلون الأغنيات والمواويل والحكايا والألعاب الجماعية التمثيلية, يحولون فيها الأمنيات والأحلام إلي واقع قد تحقق بالفعل. فمثلما كان أجدادهم القدامي يتوددون إلي نهر النيل يقيمون معه علاقة نسب ومصاهرة لكي يصيرو هم عائلة واحدة مترابطة يزوجونه كل عام عروسا من فلذات أكبادهم لعله يبقي راضيا عنهم بدوام الفيضان.. فكذلك يفعلون: يغنون أغنيات تتغزل في الطنبور في الشادوف في الساقية, وفي الماء فتنتشي المياه بالفعل تزغرد في القنوات مشتاقة إلي الأطراف البعيدة من أحضان الفدادين. يغنون للزرع حتي ينمو, للأغصان حتي تتفتح, للعريس حتي يثقل جيبه بالمهر المحترم, وللعروس بنت الأصول العياشة حتي يسترها الله ويرزقها بزينة الحياة الدنيا, وللمطاهر, للمهد, للسبوع, للخطوبة, للحنة, للدخلة, للصباحية, للميت حتي يبقي حسه علي وش الدنيا, للغائب حتي يعود, الرقي والتعاويذ أنشودات وطقاطيق غنائية لطرد السموم من الجسد الملدوغ, ولخرق عين الحسود, إبعاد الشيطان عن الدار الآمنة. الحدوتة أو الحكاية قاسم مشترك في كل الاشكال الفنية القولية الفولكلورية. الحدوتة هي لغة المقال في الأغنية والموال حتي في قصائد كبار شعرائنا منذ عرفنا الشعر إلي اليوم, وفي الرقي والتعاويذ والالغاز توجد علي نحو أو آخر, ناهيك عن الحواديت والحكايات التي تتدفق بغزارة في حياتنا اليومية. نعم لقد بلغ ولع الشخصية المصرية بالحكاية والحدوتة إلي حد جعل منها لغة تخاطب في حوارنا اليومي في كل مكان. اننا نستخدم الحدوتة أو الحكاية استخداما شعريا, علي سبيل الاستعارة والمجاز. فما نتحرج من قوله مباشرة لأي سبب من الأسباب نخترع له حكاية تنوب عنا في غمز ولمز وإيحاء علي طريقة الكلام لك ياجار ويتوافر بيننا من يحقق براعة فائقة في استقطاب الحكايات ذات الدلالات الاجتماعية والاخلاقية, وفي ارسالها في الوقت الملائم بحيث تكون منطبقة علي نفسه تمام الانطباق ومن ثم تحقق دلالتها المقصودة. ولقد عاش أرهاط لا حصر لهم من الوعاظ أنصاف الموهوبين, أنصاف المثقفين علي خصيصة حب الشعب المصري للحكايا وللحكي في حد ذاته, إذ تتحفز كل ما ملكاته للانتباه بمجرد استماعه لعبارة: يحكي أن, أو كان ياما كان أو قال الراوي ياسادة ياكرام أو ما أصبحت النكتة المصرية تستخدمه في الاستهلاك بالقول: كان فيه واحد.. كذا كذا.. كل أولئك الوعاظ كانت كل بضاعتهم ولا تزال إلي اليوم ركام لاينضب من حكايات وطرائف وملح عنيت بجمعها بعض كتب تراثية من أمهات تراثية أكبر وأشمل وأعمق حكايات وطرف عن الصحابة عن الحكماء والظرفاء, والبخلاء والكرماء, وأولي العزم. حكايات ذات مغازمضمرة في تلافيفها بشكل مكشوف أحيانا, إذ انها في معظمها موضوعة ومنتحلة من خيال الرواة والدعاة المحترفين. لعبت هاتيك الحكايا والطرائف دورا كبيرا في تشكيل وجدان عامة المصريين خاصتهم علي السواء; بل إن بعض الحكايا تكتسب قدسية عند الكثيرين, خاصة تلك المتعلقة بآل بيت النبي عليه الصلاة والسلام. علي أن الوجدان المصري الزراعي حقل مزروع بالحكايا من أساسه; حكايا شعبية تلقائية متماسكة لصدقها, لافتة ببراءتها وبكارتها الإنسانية, أحداثها وتفاصيلها وكائناتها منسوجة من مواعيد سرمدية بينهم وبين الحصاد المفعم بالأمنيات في تحقيق الآمال المؤجلة والآجلة من علاقات الفلاحين بالمياه بالرياح بالأمطار بالشمس بالقمر, علاقة ود تتسق فيها حركة المواسم ومناخات الفصول وقيام الفاكهة. وأرض مصر الكريمة حين طرحت مع النبات مدنا وعواصم فخمة ذات عمد وقباب ومعابد ومدافن وحدائق; أورثت مدائنها طبيعتها الحكائية مزاجها الرائق الميال إلي الأنس والمحبة والتسامح قبل أن يصبح للعواصم أخلاقياتها المنحرفة المتلبكة بفعل الغزاة والفاتحين من أحط أمم الأرض, إلا أن المدينة المصرية بقيت طوال عمرها ابنة للقرية, وللقرية حضورها القوي في ذاكرة المدينة وفي أسواقها وطرقاتها ومؤسساتها وأحيائها السكنية, وفي أخيلة أبنائها. ونحن المصريين جميعا في القرية أو المدينة نتخاطب في حياتنا بالحكاية والحدوتة, في أسواق البيع والشراء في مؤسسات العمل في بيوتنا ومع بعضنا البعض. الحكاية أداة حوارية, ولهذا تشيع في واقعنا اليومي وفي أفلامنا عبارات دالة من قبيل: إنت حتحكي لي قصة حياتك؟! يقولها من يضيق بالتطويل والاستطراد في حديث الطرف الاخر. وتتكرر في حوارات التمثيليات والأفلام عبارة: هات من الآخر.. مما يشي بأننا مغرمون ليس بالحكي فحسب بل بالتطويل والاستفاضة والفضفضة. وبالحكي للآخر نغسل صدورنا من أدران الغضب, ونلتمس الدفء عند الآخر بأن نحكي له بعض همومنا. وحينما يأتينا الحكي ننصت بشغف فطري. الواحد منا يقول للآخر بنبرة مثيرة: علمت بما حصل؟ فيرد الآخر علي الفور في شغف واشتياق: هيه! بإيقاع صوتي منغوم ممدود يعني: هات ما عندك. والمرأة النمامة تهتف في أذن صديقتها مولولة بصوت متهدج: اسكتي اسكوتي ي ي س! تلك هي المقدمة الموسيقية أو اللحن المميز تقصد به تنبيه صاحبتها إلي ما سوف تحكيه لها وهو لاشك خطير, والذين قدر لهم الاقتراب من عظماء المتحدثين الحكائين أكله الأدمغة من أمثال زكريا الحجاوي ومحمود السعدني وعباس الاسواني وحسن إمام عمر يري روح مصر الانيسة المؤنسة المبهجة مجسدة في شخصياتهم كان الواحد منهم إذا حضر قعدة أو سهرة فلن يستطيع مخلوق منهم أن يتحدث في حضرته, ليس قهرا أو عجزا بل حرص علي أن يستمع ويستمتع بحكي متدفق ذي حلاوة وطلاوة, وأبدا أبدا لا يكون التدفق فارغا أو سطحيا أو مجرد طرف خفيفة الظل, إنما كان حشودا من حكايات حافلة بالمواقف المثيرة بما لها من دلالات عميقة في تجاريب الحياة بالنسبة لمحمود السعدني وعباس الاسواني تراك مضطرا إلي ترقيم الحكايات التي تتداخل في بعضها مع التدفق التلقائي, لكي تفهم أن هذه العبارة أو تلك تخص الحكاية رقم كذا, أو هي تكملة للحكاية رقم كذا. وهكذا انها روح مصر الشعبية المرحة الذكية الغمازة اللمازة النقادة بلذع كالشطة والفلفل اللاسعة كأطراف الكرابيج. صديقك الحميم, بل ربما أخوك إذا أحوجته الظروف الصعبة إلي أن يقترض منك مبلغا من المال وأنت أقرب الناس إليه' وهو حيي خجول لم يعتد الاقتراض; سوف يتردد كثيرا وتبدو عليه الحيرة بصورة لافتة تفرض عليك أن تسأله في اهتمام: ما لك يافلان؟ ولسوف يترددمرة أخري, وأبدا لن يقول لك بشكل مباشر شوف لي معاك قرشين سلف! أو حتي يسألك سؤالا تمهيديا مباشرا معاك فلوس؟ لكن من المؤكد أنه سيحكي لك حكاية, مؤلفة كانت أو حقيقية لكنها متصلة بصلب الواقع, سيقول لك إنه مثلا مثلا قد ورطته زوجة فلانة منها لله بقي في إصلاح صنابير الحمام فإذا به يتكسعم في تغيير السيراميك بالمرة, في حين أنه لم يكن حاسبا حساب ذلك, ولهذا فالدنيا مغبرة في عينيه ولا يدري ماذا يفعل للخلاص من هذه الورطة, وأنت في الحال تكون ملكة الحكي قد تيقظت في وجدانك وتحفزت ووضعتك في موقف التجاهل الأريب; تقول له: اشرب الشاي; ثم تغدق عليه بسجائرك ومع سحب الانفاس تختمر حكاية الرد في رأسك تقول له وكأنك لم تسمع بمشكلته كلاما أقرب إلي تقرير واقع أكثر منه شكوي: يأأخي الواحد مش قادر يلقط نفسه! تصور أني لسه دافع فاتورة الكهرباء ميتين جنيه!! المحصل مشي من هنا والبنت صرخت! داست علي كبايه مكسوة شرمت رجلها طلعنا نجري بيها ع المستشفي وخد عندك بقيت أقول ياريتني أجلت دفع الكهرباء..إلخ إلخ. حكايته ربما كانت فقيرة وعادية. أما حكايتك فلابد أن تكون بالضرورة أطول, وميلودرامية, وأكثر ماساوية كأنك تعاقبه علي مجرد التفكير في الاقتراض منك, وانه ليستحق الجلد كما فعلت.. يستاهل!