أحد أهم الاسئلة التي تواجه صانع القرار في مصر بعد ثورة52 يناير المجيدة يتعلق بدور القطاع الخاص في التنمية في الفترة المقبلة, ولقد دمرت وزارات رجال الأعمال التي سادت في السنوات العشر الأخيرة السابقة للثورة سمعة رجال الأعمال, وقوضت الثقة في قدرة الاقتصاد الحر علي تحقيق امال الناس في تنمية متواصلة تصل منافعها للجميع, وبسبب تواتر الأزمات الاقتصادية من ارتفاع الأسعار وأزمات في اسواق العمل, وإخفاق في توفير السلع ثارت الظنون في قدرة الحكومة الوطنية في تنظيم العمل الاقتصادي فهل تمثل ثورة يناير المصرية بداية النهاية للاقتصاد الليبرالي في مصر؟!وبرغم تأكيدات رئيس مجلس الوزراء, وكذلك أقطاب المجلس الأعلي للقوات المسلحة ايمانهم بالقطاع الخاص, فإن قيامه بالدور المطلوب في تحقيق التنمية الاقتصادية اصبح يتطلب تعاونا كبيرا من جانب الحكومة من جهة وإعادة ترتيب من قبل القطاع الخاص ذاته, من جهة أخري. ذلك ان نموذج الرأسمالية المنطلقة او إذا اردت الرأسمالية المتوحشة, الذي اتبعته حكومتا عاطف عبيد واحمد نظيف والذي نتج عنه تنحي الحكومة عن رقابة الاسواق ونفض يدها من الإنتاج المباشر ومحاولة التخلص من القطاع العام كله لم يكن سوي واجهة لعملية نهب منظم لموارد البلد, وستار لتمكين اقطاب الحكم من السيطرة علي كل موارد الثورة ما عن طريق احتكار انتاج وتوزيع سلع اساسية مثل الحديد والصلب والأسمنت, والسكر, وزيوت الطعام, او عن طريق الاستيلاء علي الأراضي, أو التلاعب في عمليات البورصة,( وهل يستغرب ان نجل الرئيس السابق والوريث الجمهوري المرتقب كان يشغل منصب عضو مجلس إدارة كبري شركات المضاربة في البورصة) او الوساطة المشبوهة في عمليات الاستيراد وبيع القطاع العام, وبالطبع سهل التزواج بين رأس المال والسلطة عملية السطو هذه, وتم هذا في تحد سافر للقوانين القائمة التي تمنع اهل السياسة من التعامل التجاري مع الحكومة, أو تفرض عدم التربح من الوظيفة العامة الخ, ورأينا كيف سكت رئيس البرلمان علي مخالفة صارخة تتمثل في رئاسة صاحب أكبر احتكارات الحديد للجنة الخطة والموازنة, وهي اللجنة المنوط بها مناقشة قوانين العمل الاقتصادي بما فيها قوانين مكافحة الاحتكار. وهكذا فإن الرأسمالية التي مارستها حكومات رجال الاعمال لاتنتمي في الواقع إلي الرأسمالية الليبرالية بصلة, وليس لها نظير في أي دولة من الدول الرأسمالية الحديثة, واذا كنا في اي من تلك الدول, وحدث وأن اقترف أساطين الحكم أو رجال الاعمال نفس ممارسات الاحتكار او التلاعب في الاسواق المنسوبة لنظرائهم في مصر لكان مآلهم السجن ولمدد طويلة. وبمقابل هذا السجل الأسود لحكومات رجال الأعمال, فقد شهد التاريخ المصري في القرن العشرين مثالا ايجابيا لاندماج طبقة المنظمين ورجال الاعمال الوطنيين في منظومة التنمية والعمل علي تحقيق طموحات الوطن, فتم انشاء بنك مصر وصناعة النسيج الحديثة في المحلة الكبري, وصناعة الأسمنت, ثم صناعة الحديد والصلب بواسطة القطاع الخاص الملتزم, كان هذا في عصر الليبرالية السياسية السليمة التي جعلت رئيس الوزراء يقف في البرلمان ليدفع تهمة استغلال النفوذ لتوسط السفارة المصرية في لندن لزوجته في شراء معطف من فرو السمور, والتهمة لم تكن في شراء المعطف من اموال الدولة, ولكن في استخدام وقت السفارة في البحث عن معطف رخيص! فما بالك بالذين استحلوا المال العام, واغترفوا من اموال الشعب قصورا, وطائرات ومنتجعات الصفوة, وارصدة بالمليارات في بنوك الخارج! ما الحل إذن, وأي نظام اقتصادي نتبع؟ ليس هناك شك ان النظام الاقتصادي الليبرالي هو النظام السائد والناجح في غالبية دول العالم, ولقد ولت ايام قيام الدولة بدور المنتج, والموزع للسلع والخدمات, وأصبحت الدولة الحديثة تكتفي بان تكون الحكم بين الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة, وكذلك المنظم للحياة الاقتصادية والاجتماعية, ولايعني هذا ألا يكون للدولة برنامج اقتصادي, بل بالعكس فان نجاح حكومة الثورة في تحقيق طموحات المواطنين الاقتصادية يتطلب ان تضع رؤية اقتصادية وسياسية بشأن مسيرة الاقتصاد والمجتمع المصري في الامد المتوسط والطويل. ومن أسف أن الهجمة الشرسة علي اموال وحقوق الشعب التي تسارعت في العقد الأخير من حكم الرئيس المخلوع تزامن معها جهد دؤوب لإضعاف الخدمة المدنية وتقليص دور الدولة الرقابي والتنظيمي, وتم الغاء وزارة الاقتصاد ثم وزارة التخطيط وان عادت الأخيرة في التشكيل الوزاري الأخير, مع التخلص من الشركات العامة الرابحة في الصناعات الاساسية. وتحتاج المرحلة المقبلة إلي ان تخرج الحكومة من مجال إدارة الاعمال إلي إدارة المجتمع, ويتطلب هذا الدور إعلان لأهداف المجتمع ووضع السياسات اللازمة لتحقيقها, وعلي الحكومة ان تهييء المناخ اللازم لازدهار الاعمال, ومن ذلك إيجاد الإطار التشريعي والقضائي ووضع قواعد عمل الأسواق التي تضمن التنافس وحرية القيام بالأعمال وتمنع الاحتكار, وتوفر البيانات اللازمة لاتخاذ قرارات رشيدة, ويعتبر وجود مثل هذه الإدارة الحكومية الرشيقة والمهابة شرطا اساسيا للنمو كما اثبتت خبرة النمور الآسيوية. وفي ظل هذه الأجواء الشفافة, ومع عودة الديمقراطية, ووجود رقابة جدية من قبل المجالس النيابية وغيرها من المؤسسات الدستورية, يمكن ان نتطلع إلي انتعاش دور القطاع الخاص الكبير والصغير بما يحقق طموحنا لإيجاد نهضة اقتصادية واجتماعية قد طال انتظارها. المزيد من مقالات د. علي عبد العزيز سليمان