كان القضاء علي الاقطاع القديم( الزراعي) أحد أهداف ثورة32 يوليو. وقد حققت هذا الهدف عبر إصلاح زراعي كانت الحركة الوطنية المصرية تطالب به منذ بداية أربعينيات القرن الماضي. ولكن ثورة52 يناير لم تضع القضاء علي الاقطاع الجديد( العقاري) ضمن أهدافها بعد, ولم تطرح مشروعا للاصلاح في هذا المجال بالرغم من النهب الخيالي الذي حدث فيه. لقد تصدت ثورة32 يوليو لاقطاع زراعي في أراض كانت مساحتها الاجمالية أقل من نصف تلك التي تشكل الاقطاع العقاري الراهن. وليس هناك ما يؤكد أن الرقم الذي ورد في التقرير المقدم من الجهاز المركزي للمحاسبات إلي النائب العام قبل أسابيع قليلة, وهو ثلاثة ملايين ونصف المليون من الأفدنة, يشمل جميع الأراضي التي أقطعت إلي أمراء النظام السابق وأركانه وأصحاب النفوذ فيه. فهذه المساحة الهائلة كانت تحت ولاية هيئة واحدة فقط قبل أن يتم إقطاعها إلي الأمراء وهي الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية. وقد تم إقطاع هذه الأراضي إما دون سند قانوني من أي نوع, أو بالمخالفة للقانون, أو بالتحايل عليه. وتم استخدام قسم كبير منها في غير المجال الذي يفترض أن يلتزم من أقطعت إليهم بالعمل فيه وهو استصلاح الأراضي واستزراعها. فقد تم تغيير وجهة استخدامها إلي بناء منتجعات وفيلات وبحيرات ترفيهية وغيرها من المشاريع السكنية الاستثمارية. وشهدت السنوات العشر الأخيرة علي هذا النحو أكبر عملية نهب منظم في تاريخ مصر عبر تخصيص مساحات هائلة من أراضي الدولة وتحويلها إلي صورة جديدة من صور الاقطاع, ولكن في المجال العقاري. ويتضح الآن يوما بعد يوم أن هذه العملية كانت هي الآلية الأساسية لبناء نواة صلبة لمشروع توريث الرئاسة الذي قام علي تركيز السلطة والثروة بين يدي قلة أريد لها أن تسيطر تدريجيا علي الحزب الوطني ومجلس الشعب ومجلس الوزراء. وبالرغم من أن تفاصيل عملية بناء النواة الأساسية لمشروع التوريث ستظهر تباعا, فهناك ما يدل علي أن هذه النواة اعتمدت علي مصالح أمراء مال وأعمال كبار ضالعين في فساد عظيم, إلي جانب تكبير مستثمرين آخرين عبر فتح منافذ جديدة للفساد والافساد ليكونوا قوة فاعلة في مساندة ذلك المشروع. وهكذا أقطعت مساحات هائلة لم يكن في امكان أي خيال أن يقدر حجمها إلي أمراء الاقطاع العقاري بأسعار كان مستحيلا تخيل مدي تدني قيمتها. فقد أقطعت أراضي طريق القاهرةالاسكندرية الصحراوي علي سبيل المثال إلي11 من هؤلاء الأمراء بأسعار كان أعلاها مائتي(002) جنيه للفدان الواحد. كما أقطعت مساحة لاتقل عن005 فدان في طريق القاهرةالاسماعيلية الصحراوي إلي أحد الأمراء بسعر يقل عن ذلك. أما أراضي البحر الأحمر بين مدينتي مرسي علم والقصير فقد أقطعت بسعر دولار واحد للمتر المربع. وليست هذه إلا مجرد أمثلة تدل علي ان ما حدث كان عملية إقطاع حقيقي وليس بيعا بأي حال, حيث أقطع من لا يملك أراضي الدولة لمن لا يستحق. وبالرغم من هزال السعر الذي قدرت به هذه الأراضي وهزله, فقد أقطع بعضها بلا سعر ولا مقابل. فقد حصل أحد الأمراء علي أكثر من11 ألف فدان في شبه جزيرة سيناء دون أن يدفع مليما واحدا, وباع ثمانية آلاف منها بمبلغ قيل أنه يقدر بنحو053 مليون جنيه لأجانب بالمخالفة للقانون ولاعتبارات الأمن القومي. كما حصل أمير آخر من أمراء عصر مبارك علي نحو02 فدانا بدون مقابل في منطقة المقطم التي يقدر سعر المتر المربع فيها بما لا يقل عن ستة آلاف جنيه. وإلي جانب الأمراء الذين حصلوا علي مساحات خيالية من الأراضي, شمل هذا الاقطاع آخرين أقطعوا بهدف تكبيرهم, وتوسيع أعمال شركاتهم التي كانت بين متوسطة وصغيرة. ولا سبيل إلي مواجهة هذا النهب المنظم, وإعادة الحق إلي أصحابه, وهم المصريون دولة ومجتمعا, إلا عبر القضاء علي الاقطاع العقاري عبر قانون للاصلاح مثلما حدث عقب ثورة32 يوليو2591 بشأن الاقطاع الزراعي. ويمكن أن يقوم هذا القانون, الذي يحسن فتح حوار عام حوله, علي ثلاث ركائز: الأولي هي استرداد أراض تم إقطاعها ولم تستخدم بعد أو استخدمت في غير الأغراض المخصصة لها. والمفترض أن تسترد هذه الأراضي بالأسعار نفسها التي بيعت بها. ويمكن بحث دفع تعويض عن الأموال التي استثمرت فيها وفق معايير محددة وصارمة. والركيزة الثانية المقترحة لقانون الاصلاح العقاري هي إعادة تسعير الأراضي التي استخدمت في أغراضها وفقا لقواعد السوق لانهاء حالة الاقطاع وتحويلها إلي بيع حقيقي. أما الركيزة الثالثة فهي تحديد حد أقصي للملكية العقارية بالنسبة إلي الأفراد والشركات, مع وضع شروط صارمة جامعة مانعة لتجاوزها في حالة الشركات الأكثر نجاحا في مجال الاستثمار العقاري. ولكن السؤال الذي لابد أن يثار هنا هو: ألا يؤثر هذا الاصلاح الذي يستهدف مواجهة إقطاع جديد علي سوق العقارات والاستثمار فيه ويؤدي إلي انهياره؟ السؤال وجيه ومنطقي بالرغم من أن الخوف علي السوق هو الفزاعة التي يلجأ إليها عادة المستفيدون من شيوع النهب فيه ورافضو أي تدخل لتنظيمه من أجل تحقيق التوازن بين الربح ومصلحة المجتمع. غير أن من يجيدون إثارة الهلع من أي تدخل لتنظيم السوق يجدون أنفسهم في موقف ضعيف في هذه الحالة لأن التراجع حدث في سوق العقارات فعلا نتيجة كشف قضايا الفساد الكبري فيه والتحقيقات الجارية بشأنها, وبسبب حالة عدم اليقين التي تدفع إلي تأجيل الشراء, فضلا عن ميل الكثيرين إلي المحافظة علي السيولة المتوافرة لديهم. وفي ثنايا هذا كله, تكمن حالة عدم الثقة التي تفاقمت نتيجة اكتشاف الفساد المذهل الذي اقترن بخلق طبقة إقطاعية عقارية متوحشة. ولذلك يمكن أن يكون الاصلاح العقاري المقترح هو السبيل إلي تحقيق الثقة اللازمة لاعادة صوغ قطاع العقارات علي أساس التنافس العادل الذي يصعب في غيابه تنشيط هذا القطاع وضخ الحيوية فيه. فهل تواجه الثورة هذا الإقطاع الجديد, كما فعلت ثورة2591 تجاه القديم, أم تتعايش معه؟.. وهل تكون ثورة فعلا إذا تعايشت مع أكبر عملية نهب منظم لموارد مصر في العصر الحديث؟ المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد