لابد وأن نعترف بأن هناك فارقا كبيرا بين إرضاء الرأي العام وتنويره.. الحالة الأولي أشبه بطبيب يكذب علي أهل المريض ويوهمهم أنه بخير حتي ينجو من بطشهم ويستمر في إستغلالهم دون نتيجة علي أرض الواقع. والكاتب الإقتصادي هذه الأيام بين نارين, إذا قال أن الأوضاع الإقتصادية عشرة علي عشرة والمستقبل مشرق, يقولون أنه' بتاع التنمية' ومردد لشعارات ما قبل الثورة, وإذا قال أن الوضع الإقتصادي خطير ويستلزم الإنتباه يحسبونه علي' الثورة المضادة'. وفي كل الأحوال لا يمكن لطبيب شريف أن يجامل أهل المريض ويوهمهم بشفاء عاجل علي غير الحقيقة, ولا يمكن لكاتب وطني أن يضع رأسه في الرمال ويتحدث عن حالة الطقس ومدي مناسبته للنزهة ويتجاهل مؤشرات بركان قادم في الطريق. وفي جلسة جمعتني بشخصية إقتصادية علي قدر كبير من الإحترام والمعرفة تحدثنا عن مدي صمود الإقتصاد المصري بفرض إستمرار حالة القلق الأمني والمظاهرات الفئوية والعصيان المدني في بعض المواقع, قال أنه خلال الثمان أعوام الماضية تمكنا من بناء إحتياطي من النقد الأجنبي يصل إلي36 مليار دولار, ومع أوضاع مصادرنا من النقد الأجنبي حاليا تراجع هذا الإحتياطي إلي نحو28 مليار دولار حتي نهاية إبريل الماضي, أي أنه فقد8 مليارات دولار في ثلاثة شهور, وهو ما يعني مع ظروف البلد الحالية إمكانية الصمود لفترة لا تزيد من ثلاثة لأربعة شهور, فنحن نستورد50% من إحتياجاتنا من القمح, و70% من إحتياجاتنا من الفول والعدس, و90% من إحتياجاتنا من زيت الطعام, بخلاف الأنسولين وبعض الأدوية المهمة. هذا الوضع ليس في سوريا مثلا التي لديها إكتفاء ذاتي من الغذاء, وليس في ليبيا التي لديها بترول قادر علي سداد فاتورة وارداتها, وبالتالي يمكنهما الصمود في ظروف أمنية صعبة لفترات أطول.. مصر بلد فقيره إلا بأهله, وهو ما يعني أن الأيدي العاملة المصرية والعقول المصرية هي ثروة هذا البلد, فإذا إنصرف العقل عن التفكير للمستقبل, واليد عن العمل للمستقبل سنضيع. تذكرت وأنا استمع إليه أن مصر مرت بظروف إقتصادية أسوأ من الظرف الحالي, ففي عام2003 لم يكن لدي البنك المركزي أي إحتياطي حر من النقد الأجنبي, ولم يكن لدينا مخزون من القمح يكفي ثلاثة أسابيع, وكانت هناك أزمة تعثر مصر في كبري, ولكن كانت هناك قوة إقتصادية كامنة متمثلة في عقول مصرية تمكنت من مواجهة الأزمة, وأيد عاملة منصرفة للإنتاج, وحالة أمنية مستقرة. نخرج من هذا الحوار بأننا مازلنا قادرين في ظل الأوضاع الحالية علي السيطرة إقتصاديا لفترة قصيرة, ولكن علينا أن نستعيد السيطرة الأمنية, ومواجهة البلطجة بكل حسم, والعودة للإنتاج بكل قوة. وهذا في تقديري هو رد الجميل الحقيقي لشهداء مصر الذين سقطوا في معارك الحرية منذ فجر التاريخ وحتي ثورة يناير. المزيد من أعمدة نجلاء ذكري