كانت ساحل العاج الدولة المفضلة لدي فرنسا; فهي أغني دول غرب أفريقيا وأكبر دولة مصدرة للكاكاو والقهوة والعاج. وقد ساهمت فرنسا في تنصيب زعيم التمرد الحسن واتارا رئيسا للبلاد ووضع الرئيس لوران جباجبو في سجون ساحل العاج انتظارا لمحاكمته. في الواقع لم تكمن اشكالية فرنسا في طبيعة حكم بروفسور التاريخ لوران جباجبو, خريج السوربون, فقد كان ديمقراطيا وصاحب شعبية طاغية, ولكن لمجرد اتخاذه مواقف وطنية سيادية. فقد بدأت متاعب باجبو, سنة2002 حينما قرر السماح للشركات الأجنبية بالاستثمار في كوت ديفوار, ورفض التعامل مع فرنسا كشريك اقتصادي وحيد, واستئثار شركاتها دون غيرها من الشركات العالمية, فقامت فرنسا بتدبير انقلاب عسكري ضده, أفشله الشعب. وأنشأت ميليشيات مسلحة في الشمال لمناهضته. مستغلة الصراع الديني بين الشمال المسلم, والجنوب المسيحي, وتسببت في حرب أهلية دامت سنتين. فلما قاد رئيس الوزراء الأسبق الحسن واتارا التمرد في سبتمبر2002, استنجد جباجبو بالرئيس شيراك للقضاء علي التمرد; وفقا لاتفاقية الدفاع المشترك الذي أبرمها شارل ديجول مع الرئيس هوفوييه بوانييه تقوم بموجبه فرنسا بحماية البلاد من أية نزاعات تهدد أمنها القومي. الا أن شيراك خذله تحت مبرر أن ذلك تدخل في شئون البلاد, مستغلا الفرصة للتخلص منه بعد أن أصبح مصدرا للصداع في رأس فرنسا. وقد طمعت دولة بوركينا فاسو في احتلال البلاد التي مزقتها الحرب الاهلية. فأرسلت فرنسا قواتها عام2002, بموجب الاتفاق الثنائي لإخماد النزاع المسلح مع بوركينا فاسو. لكن سرعان ما لاحظ جباجبو أن هذه القوات لا تخمد نيران الفتنة ولم تقض علي المتمردين بل تدعمهم وتوفر لهم حصونا استراتيجية للسيطرة علي نصف البلاد. فشن باجبو عام2004 هجوما عنيفا, علي قاعدة فرنسية, كان يتدرب فيها المتمردون, في سابقة تتعرض لها فرنسا في أفريقيا, فقصف بطائراته, آليات فرنسا العسكرية واسفر هذا الهجوم المفاجيء, عن مقتل9 جنود فرنسيين وتدمير طائرتين, الأمر الذي دفع شيراك لشن هجوما علي معسكر تابع لقصر باجبو ودمر جميع الطائرات القابعة فيه وثار الشعب علي هذا الاعتداء مطالبا بطرد فرنسا من البلاد, فارتكب الجيش الفرنسي مجزرة راح ضحيتها50 قتيلا من المتظاهرين المدنيين واصابة المئات. ساركوزي عقد قران الحسن واتارا حاول ساركوزي منذ مجيئه للسلطة; عام2007 طي صفحة الماضي وعكف علي القول بان فرنسا لم تعد شرطي افريقيا, وكان يتباهي بالحياد حينما تعصف الحروب بمناطق النفوذ الفرنسية, مفتخرا بانه منع الجندي الفرنسي من اطلاق الرصاص علي الإفريقي. وقد التقي ساركوزي بجباجبو في قمة فرنسا افريقيا فسكتت المدافع واستؤنف التعاون والعلاقات السياسية وأعلن له عن رغبته في وضع أسس شراكة جديدة مع إفريقيا تقوم علي مبادئ التعاون المشترك وخدمة مصالح هذه الشعوب التي ظلت ترزح منذ الستينيات تحت وطأة الديكتاتوريات الموالية لباريس. لكن سرعان ما اصطدمت نواياه الحسنة بواقعية المصالح الفرنسية في هذه الدول خصوصا مع تنامي النفوذ الأمريكي والصيني في القارة السمراء. فقد واجه ساركوزي مواقف باجبو الوطنية الأمر الذي جعل فرنسا تفكر في إزاحته من طريقها.. ولكن كيف تكون اللعبة السياسية منزهة عن دماء الأبرياء; وهي دولة حقوق الانسان; فكان التفكير في صديقه القديم الحسن وترة; بروفسور الاقتصاد; خريج جامعة بينسيلفانيا الأمريكية; والرجل المثالي لضمان مصالح الغرب في كوت ديفوار. والذي سبق وأن جمعهما موقفا طريفا كان بداية لنسجهما صداقة متينة; فقد كان ساركوزي عمدة ضاحية نوي الراقية ووفقا للأعراف فهو الذي يعلن زواج سكان مدينته, وصادف أنه عقد قران وترة علي سيدة يهودية تدعي دومينيك تقطن في هذا الحي الباريسي الراقي. وجد ساركوزي غايته عبر اللعبة الديمقراطية; حينما جرت انتخابات رئاسية في نوفمبر الماضي فاز بها وترة بفارق بسيط علي جباجبو لكن الأخير طعن في نزاهتها حيث كان المتمردون يرعبون الناخبون برشاشاتهم في شمال البلاد ومنعوا مئات الآلاف من الانتخاب; فطالب جباجبو باعادتها تحت اشراف الاممالمتحدة والمراقبين الدوليين. أو بإعادة فرز الاصوات والتحقيق في التزوير. واستثمر ساركوزي هذه الفرصة الذهبية وبارك انتخاب واتارا من قبل المجلس الدستوري معلنا بأنه الرئيس الشرعي للبلاد وحث نظراءه للاعتراف به ليكسبه مصداقية من المجتمع الدولي وطالب باجبو بالرحيل واحترام ارادة الشعب ومنحه48 ساعة, الا أن جباجبو تبسم ضاحكا من قوله فقال له ساركوزي لدينا مثال فرنسي: من يضحك كثيرا من يضحك في النهاية. ورفض جباجبو الخضوع وأعلن الحرب ضد المتمردين, ومنع عن فرنسا تصدير منتجات ساحل العاج, مما اضطر باريس لارسال قواتها للسيطرة علي مطار ابيجان لاستئناف تصدير المحاصيل الزراعية; وفرض حصارا عاما علي النظام. وقام بتمهيد الضربات العسكرية بنفس اسلوبه في ليبيا; وجه انذارات, وتمكن كعادته من استصدار قرارعاجل من مجلس الأمن( رقم1975) فيه استعراض للعضلات ورعته نيجيريا بعد ان ضغط عليها وتمت المصادقة عليه وتمريره في30 مارس في سابقة ثانية للتفويض باستخدام القوة في الأزمات الإنسانية. اضطرت فرنسا أن تفتح جبهة ثالثة للقتال لأول مرة رغم غرق قواتها في صحراء ليبيا وادغال أفغانستان, فبعد أن دارت معارك شرسة بين قوات النظام وقوات المتمردين مدعمة بقوات القبعات الزرقاء; استمرت4 ايام, تمكن جباجبو من الانتصار حتي استنجد الحسن واتارا بالاليزيه يوم3 ابريل, للتدخل بعدما اكتوي بنيران باجبو الشديدة وبضخامة قواته. فقال له ساركوزي: ليس هذا عملنا وانما عمل الأممالمتحدة. فابلغه واتارا بأن طائرتي الهليكوبتر الاممية ضعيفتي النيران وتعجزا عن تدمير آليات جباجبو العسكرية واسلحته الثقيلة وغير قادرتين علي تغيير سير المعركة لصالحه. فقال له ساركوزي: لا بد وان تطلب منا الاممالمتحدة هذا الطلب لنتدخل للمساعدة. وبعد مكالمة من واتارا للأمين العام للأمم المتحدة اتصل به بن كي مون وقال له: نطلب منك شخصيا التدخل لوقف حمام الدم وستصلك في المساء رسالة منا بذلك..وقد كان. فاتصل ساركوزي بواتارا وابلغه موافقته علي التدخل وتدمير قوات باجبو واسلحتهم الثقيلة ولكن بشرط واحد ألا وهو أن يضمن له بقاء باجبو حيا; فوعده واتارا علي مضض. وبدأت في خلال دقائق من قرار مجلس الأمن هجوم مروحيات فرنسا الستة واثنتين تابعتان للأمم المتحدة ودبابات فرنسا, وانطلقت من القاعدة الفرنسية جنوب ابيدجان; وتمكنت قوات الصاعقة الفرنسية من القبض علي الرئيس جباجبو وزوجته سيمون وابنه البكر وسلمته للمتمردين بعد أن دكت الدبابات الفرنسية الجوانب الحصينة من قصر الرئاسة ونجحت في تدمير الاسلحة الثقيلة ومشطت المنطقة وافتخر ساركوزي بنفس نبرة بوش في العراق معلنا بان فرنسا اسهمت في جلب الديمقراطية في افريقيا وان هناك400 مليون يورو لمساعدة الاقتصاد البلاد. وصارح شعبه بان فرنسا قامت بواجبها من أجل الديمقراطية وإحلال السلام في هذه البلاد, بطلب من الأممالمتحدة بررته حماية المدنيين. وهو نفس منطق تبريرات هجماته علي ليبيا. مما أهاج المعارضة الفرنسية وكوكبة كبيرة من وجهاء السياسة الفرنسية بمختلف اطيافهم; الذين واجهوا الحكومة في البرلمان بعواصف من النقد حتي أعلن رئيس الوزراء فرانسوا فيون انه لم يضع جندي واحد قدمه في القصر الرئاسي بينما يؤكد وزير الخارجية آلان جوبيه ان لا دخل لفرنسا في اعتقال جباجبو. والسؤال الذي يطرح نفسه ويستمد قوته من واقع الاحداث; كيف سيكون مصير صديق فرنسا وهو يواجه بلدا مزقه بالحرب الأهلية لعشر سنوات مما أدي الي تأكله الاقتصادي, وهو قادم للحكم من علي الدبابة الفرنسية؟ ولماذا أغمضت فرنسا عينيها علي المجازر التي ارتكبها طوال عشر سنوات كان آخرها الاسبوع الماضي مقتل800 مدني خلال زحفه نحو ابيدجان الشريان الاقتصادي للبلاد؟ سؤال آخر; هل قامر ساركوزي بمستقبله السياسي لتحسين صورته التي انحدرت الي التراب لاعادة انتخابه رئيسا في العام المقبل بهذا المجد العسكري كراعي السلام في العالم بمشاركته في حروب ست في وقت واحد, في مالي وافغانستان والصومال وبوركينافاسو, ليبيا وساحل العاج اذا ما واجهت بلاد الكاكاو والقهوة مصير العراق بينما ينتظره الفرنسيون بأن يراعي سلامهم الاجتماعي والاقتصادي في فرنسا.