بسبب القواعد الجديدة، "أطباء بلا حدود" تترقب اليوم قرارا إسرائيليا بوقف عملها في غزة    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الأربعاء 31 ديسمبر    هجوم أوكراني بطائرات مسيرة على موسكو    الاختبارات الإلكترونية لبرنامج الدبلوماسية الشبابية تجذب آلاف الشباب المصري    وخلق الله بريجيت باردو    محكمة تونسية تؤيد حكم سجن النائبة عبير موسى عامين    وزارة الرياضة تواصل نجاح تجربة التصويت الإلكتروني في الأندية الرياضية    بداية تحول حقيقي، تقرير صادم عن سعر الذهب والفضة عام 2026    ولفرهامبتون يحصد النقطة الثالثة من أرض مانشستر يونايتد    ذخيرة حية وإنزال برمائي.. الصين توسع مناوراتها حول تايوان    مصرع طفل دهسه قطار الفيوم الواسطي أثناء عبوره مزلقان قرية العامرية    طقس رأس السنة.. «الأرصاد» تحذر من هذه الظواهر    قوات التحالف تنشر مشاهد استهداف أسلحة وعربات قتالية في اليمن وتفند بيان الإمارات (فيديو)    "25يناير."كابوس السيسي الذي لا ينتهي .. طروحات عن معادلة للتغيير و إعلان مبادئ "الثوري المصري" يستبق ذكرى الثورة    رئيس جامعة قنا يوضح أسباب حصر استقبال الحالات العادية في 3 أيام بالمستشفى الجامعي    د.حماد عبدالله يكتب: نافذة على الضمير !!    محافظ القاهرة: معرض مستلزمات الأسرة مستمر لأسبوع للسيطرة على الأسعار    «قاطعوهم يرحمكم الله».. رئيس تحرير اليوم السابع يدعو لتوسيع مقاطعة «شياطين السوشيال ميديا»    خالد الصاوي: لا يمكن أن أحكم على فيلم الست ولكن ثقتي كبيرة فيهم    مصدر بالزمالك: سداد مستحقات اللاعبين أولوية وليس فتح القيد    شادي محمد: توروب رفض التعاقد مع حامد حمدان    نتائج الجولة 19 من الدوري الإنجليزي الممتاز.. تعادلات مثيرة وسقوط مفاجئ    "البوابة نيوز" ينضم لمبادرة الشركة المتحدة لوقف تغطية مناسبات من يطلق عليهم مشاهير السوشيال ميديا والتيك توكرز    استشهاد فلسطيني إثر إطلاق الاحتلال الإسرائيلي الرصاص على مركبة جنوب نابلس    الأمم المتحدة تحذر من أن أفغانستان ستظل من أكبر الأزمات الإنسانية خلال 2026    قيس سعيّد يمدد حالة الطوارئ في تونس حتى نهاية يناير 2026    نتنياهو يزعم بوجود قضايا لم تنجز بعد في الشرق الأوسط    من موقع الحادث.. هنا عند ترعة المريوطية بدأت الحكاية وانتهت ببطولة    دعم صحفي واسع لمبادرة المتحدة بوقف تغطية مشاهير السوشيال ميديا والتيك توك    تموين القاهرة: نتبنى مبادرات لتوفير منتجات عالية الجودة بأسعار مخفضة    التنمية المحلية: تقليص إجراءات طلبات التصالح من 15 إلى 8 خطوات    المحامى محمد رشوان: هناك بصيص أمل فى قضية رمضان صبحى    رضوى الشربيني عن قرار المتحدة بمقاطعة مشاهير اللايفات: انتصار للمجتهدين ضد صناع الضجيج    طرح البرومو الأول للدراما الكورية "In Our Radiant Season" (فيديو)    الخميس.. صالون فضاءات أم الدنيا يناقش «دوائر التيه» للشاعر محمد سلامة زهر    لهذا السبب... إلهام الفضالة تتصدر تريند جوجل    ظهور نادر يحسم الشائعات... دي كابريو وفيتوريا في مشهد حب علني بلوس أنجلوس    بسبب الفكة، هل يتم زيادة أسعار تذاكر المترو؟ رئيس الهيئة يجيب (فيديو)    د هاني أبو العلا يكتب: .. وهل المرجو من البعثات العلمية هو تعلم التوقيع بالانجليزية    غدًا.. محاكمة 3 طالبات في الاعتداء على الطالبة كارما داخل مدرسة    حلويات منزلية بسيطة بدون مجهود تناسب احتفالات رأس السنة    الحالة «ج» للتأمين توفيق: تواجد ميدانى للقيادات ومتابعة تنفيذ الخطط الأمنية    أمين البحوث الإسلامية يلتقي نائب محافظ المنوفية لبحث تعزيز التعاون الدعوي والمجتمعي    ملامح الثورة الصحية فى 2026    هل تبطل الصلاة بسبب خطأ فى تشكيل القرآن؟ الشيخ عويضة عثمان يجيب    هل يجب خلع الساعة والخاتم أثناء الوضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    جامعة عين شمس تستضيف لجنة منبثقة من قطاع طب الأسنان بالمجلس الأعلى للجامعات    خالد الجندى: القبر محطة من محطات ما بعد الحياة الدنيا    خالد الجندي: القبر مرحلة في الطريق لا نهاية الرحلة    حقيقة تبكير صرف معاشات يناير 2026 بسبب إجازة البنوك    الأهلي يواجه المقاولون العرب.. معركة حاسمة في كأس عاصمة مصر    رئيس جامعة قناة السويس يهنئ السيسي بالعام الميلادي الجديد    رئيس جامعة العريش يتابع سير امتحانات الفصل الدراسي الأول بمختلف الكليات    الصحة: تقديم 22.8 مليون خدمة طبية بالشرقية وإقامة وتطوير المنشآت بأكثر من ملياري جنيه خلال 2025    الزراعة: تحصين 1.35 مليون طائر خلال نوفمبر.. ورفع جاهزية القطعان مع بداية الشتاء    معهد الأورام يستقبل وفدا من هيئة الهلال الأحمر الإماراتي لدعم المرضى    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30-12-2025 في محافظة الأقصر    نسور قرطاج أمام اختبار لا يقبل الخطأ.. تفاصيل مواجهة تونس وتنزانيا الحاسمة في كأس أمم إفريقيا 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من القاهرة
قياس حالة الوطن ؟‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 13 - 02 - 2010

بصراحة‏,‏ لقد آن الآوان لكي تنضج النخبة كلها فلم يعد يكفي إصدار الأحكام الانطباعية‏,‏ أو تناول الأرقام السماعية دون تدقيق‏,‏ وقبل هذا وذاك يجب أن نكون مستعدين لتقبل أخبار موجعة أو حسنة تقود كلها إلي قراءة أقرب إلي الدقة للواقع المصري‏.‏ إن هناك سؤالين لا تكف كل المنتديات المصرية عن طرحهما‏:‏ إلي أين تتجه مصر؟ وكيف حال المحروسة الآن؟ وفي الأوساط الثقافية في العموم‏,‏ أو النخبة الفكرية والسياسية‏,‏ فإن السؤالين أحيانا يكونان محملين بالإجابة من خلال ما يفشيه الوجه والجسد والعيون من إشارات كلها تقول إن الإجابة عن السؤال الأول هو‏:‏ إلي المجهول‏,‏ أما الثاني فهو أن الأحوال ليست فقط لا تسر‏,‏ بل إنها تتجه من سييء إلي أسوأ‏,‏ مقارنة طبعا بالأحوال المجيدة التي عاشتها مصر خلال الستينيات من القرن الماضي‏,‏ أو الأحوال التليدة التي عرفتها مصر قبل منتصف القرن العشرين‏.‏
الأسئلة هكذا مطروحة بقوة بين الساسة والإعلاميين والمثقفين‏,‏ ولكنها تكاد تكون غائبة‏-‏ كما تقول كل استطلاعات الرأي العام المتاحة في مصر‏-‏ بين العامة حيث توجد قضايا أخري أكثر أهمية من هذه التساؤلات المثيرة‏.‏
من جانب آخر‏,‏ فإن هذه الأسئلة مترابطة حيث لا يمكن معرفة اتجاه المستقبل المصري‏,‏ ما لم يكن لدينا طريقة متفق عليها لقياس الحالة المصرية التي تجد كثرة من الصفوة أنها باتت من السوء بحيث لا يتصور وجود علاج لها إلا بزلزال من نوع أو آخر‏;‏ أما قلة فقد وجدت أن حل معضلة المفارقات بين القول والواقع يوجد في ابتداع نظرية نصف الكوب الفارغ والنصف الآخر الممتلئ دون أن تعرف أبدا عما إذا كانت هناك علاقة بين الفراغ والامتلاء أم أن الحالة بها من الانفصال ما يرقي إلي علاقة الزيت بالماء؟
إن من يستمع إلي المنتديات المختلفة لا يجد مؤشرات معينة أو مقاييس محددة لقياس واقع ظاهرة أو تحديد الحجم الحقيقي لمشكلة بعينها‏,‏ وما يحدث هو إطلاق أحكام مطلقة ومجرد انطباعات ذاتية وصور نمطية لا تتغير‏,‏ ويغلب عليها التعميم أو البعد غير العلمي في التقييم‏,‏ بما لا يتيح التعرف علي الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية في هذا البلد‏,‏ أو الكشف عن جوانب الإنجاز وجوانب القصور في مرحلة زمنية في مؤشر بعينه‏,‏ سواء كان خاصا بالإصلاح السياسي أو التطور الاقتصادي أو التنمية البشرية أو مجتمع المعرفة أو حقوق الإنسان بما فيها الحريات الصحفية والحريات الدينية وغيرها‏.‏
وإذا كان التعرف علي المستقبل المصري يبدأ بأننا جميعا‏,‏ مواطنين وحكاما‏,‏ نخبة وجماهير‏,‏ شركاء في صناعته‏,‏ لأنه في الأول والآخر صناعة بشرية‏,‏ فإنه لايمكن التحدث عن مساره الذي يتشكل من الواقع والإرادة دون اتفاق علي قياس الحالة وفهم آليات الحركة داخلها‏,‏ وهنا فإن الأمر كله يحتاج إلي قدر غير قليل من الإخلاص والنزاهة الفكرية وسلامة الضمير‏.‏
آخر نموذج لما أقصده حدث أخيرا‏,‏ فبعد أن فازت مصر بكأس الأمم الأفريقية في كرة القدم‏,‏ ومن بعدها جاءت الجائزة بعد حمل الكأس‏-‏ في أنها أصبحت الدولة العاشرة في التصنيف الشهري الذي يصدره الاتحاد الدولي لكرة القدم‏'‏ الفيفا‏'‏ علي موقعه علي الانترنت عن مستوي المنتخبات‏,‏ بعد دول مثل أسبانيا والبرازيل وهولندا وإيطاليا والبرتغال وألمانيا وفرنسا والأرجنتين وانجلترا علي الترتيب‏.‏ وكانت مصر قد احتلت المركز الرابع والعشرين في تصنيف الشهر السابق‏,‏ مما يعني إنها قفزت أربعة عشر مركزا نتيجة فوزها بكأس الأمم‏,‏ متفوقة علي منتخبات عريقة عدة مثل الولايات المتحدة والمكسيك وكرواتيا‏.‏ كما جاء المنتخب المصري الأول عربيا‏,‏ وكان أقرب المنتخبات العربية له هو الفريق الجزائري الذي استقر في المركز الحادي والثلاثين‏,‏ كما أتي منتخب مصر في المرتبة الأولي أفريقيا أيضا حيث كان أقرب منتخب له نيجيريا الذي احتل المرتبة الخامسة عشرة عالميا‏.‏
المثير أن مثل هذه الأنباء ولدت فورا اتجاها في الكتابات المصرية يشير إلي تواضع الحلم المصري وإنحساره في ساحة الرياضة فقط‏,‏ بحيث تم تصوير ما تحقق من إنجازات كروية علي أنه الاستثناء وليس القاعدة‏,‏ وعلي أنه يمثل استثناء خارج السياق العام‏,‏ فلم تحدث وفقا لذلك الاتجاه‏-‏ إنجازات ملموسة في الإصلاح السياسي ومعدل النمو الاقتصادي والاستثمار الأجنبي والتوافد السياحي والإنتاج الثقافي أو ما يمكن تسميته ب‏'‏ الفوز التنموي‏'‏ في مصر‏,‏ وهو ما يخالف العلاقة الارتباطية بين التقدم العام والتقدم في مجال بعينه‏,‏ حيث أن هناك دائما استثناءات في الحياة المصرية‏,‏ أو هكذا سار المنطق‏,‏ بحيث نشهد بين الحين والأخر جزرا معزولة للتقدم ينجح فيها من وضع أسسا علمية لتطورها ونموها وتقدمها‏.‏
سأعود قليلا إلي عالم الأكاديميا‏,‏ فنقطة البداية في الموضوع كله هي أن هناك عددا من المقومات الأساسية لقوة الدولة‏,‏ والتي يمكن الاستناد إليها لتحقيق مصالحها الوطنية‏,‏ ومنها المساحة الجغرافية والطبيعة الديموغرافية والموارد الطبيعية والقدرات الاقتصادية والقوة العسكرية والبنية التكنولوجية‏,‏ وكذلك نوعية القيادة والحالة المعنوية للشعب المنتمي إلي هذه الدولة‏.‏ ولذا فإن صناعة التطور والتحديث ليست مسئولية الحكومات وحدها ولكنها أيضا مسئولية الشعوب‏,‏ وإذا تم ترسيخ ثقافة المشاركة من داخل كل فرد في مصر‏,‏ سيصبح مختلف أفراد المجتمع شركاء في إحداث التحول في مسار البلاد‏.‏ وبالتالي‏,‏ لا يصبح فوز المنتخب ببطولة كأس الأمم الأفريقية علي سبيل المثال حالة استثنائية وإنما تكون شاملة ومستمرة حيث تتبلور عقلية المنافسة والانتصار‏,‏ التي تضع مصر في مكانة لائقة بين دول العالم في مختلف المجالات‏.‏
المشكلة في مصر أن النظام الاجتماعي والثقافي يقوم علي مقاومة العوامل الدافعة لعملية التنافس في ساحات مختلفة‏,‏ حيث إن فلسفة العقد الاجتماعي السائد بين الدولة والمواطن لا تقوم علي إطلاق حرية المواطن للمنافسة في سوق سياسية واقتصادية مفتوحة‏,‏ بل علي إدارة العلاقة في ظل توازنات محكومة بعطاء الدولة وولاء المواطن‏.‏ ولسنوات طويلة ساد عقد اجتماعي يغلب عليه سلبية تامة من المواطنين مقابل تدبير حكومي لكل الأمور والشئون‏,‏ فالحكومة تتولي توفير ميزانيات التعليم ونمو الاقتصاد وخلق فرص العمل والرعاية بالصحة وتدبير الأساليب المختلفة للحراك الاجتماعي والجيلي‏,‏ وهكذا تصبح الحكومة مسئولة عن المواطن المصري‏,‏ من لحظة ميلاده وحتي وفاته‏,‏ أو كما يقال من المهد إلي اللحد‏,‏ وهذه الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لا تخلق مواطنا قادرا علي خوض المنافسة‏,‏ أويتوافر لديه دافع الفوز‏.‏ وتشبه المنافسة المصرية في ساحة الرياضة ساحة تفوق وامتياز المصريين في الخارج‏,‏ خاصة الدول الغربية‏,‏ حيث يتم خوض المنافسة وفق قواعد متكافئة حددتها قوانين‏'‏ اللعبة‏'‏ في حال الرياضة وقوانين الدولة المستضيفة‏.‏
إضافة لذلك‏,‏ فإن عمليات القياس المختلفة للحالة المصرية لا يمكن فصلها ليس فقط عن الثقافة السياسية والاقتصادية السائدة في المجتمع‏,‏ بل أيضا عن الدور الذي تقوم به النخبة في دعم هذه الثقافة حيث تميل بقوة إلي الجماعة علي حساب الفرد‏,‏ بل وأحيانا جعل‏'‏ الأمة‏'-‏ العربية أو الإسلامية‏-‏ فوق الوطن‏,‏ وتنحاز بحماس للتعامل مع مصر علي أنها حالة استثنائية علي حساب اعتبارها جزءا من التطور العالمي‏.‏ وأحيانا فإن حل معضلات القياس كلها يجري من خلال الاعتماد علي التقارير الدولية‏,‏ وهي مسألة يجب فهمها‏.‏
إن هناك تقارير سنوية تتسم بالصفة العلمية والرؤية المنهجية‏,‏ تصدرها الهيئات الدولية مثل‏'‏ الأمم المتحدة‏'‏ و‏'‏البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة‏'‏ و‏'‏البنك الدولي‏'‏ و‏'‏صندوق النقد الدولي‏'‏ و‏'‏اليونسكو‏'‏ و‏'‏الأونكتاد‏',‏ وهو ما يفسر حرص الدول علي الاهتمام بما تنشره والتأكد من دقة البيانات والإحصاءات الواردة فيها‏,‏ ومن ثم التفسيرات والتقييمات التي تتضمنها بشأن هذه الدولة أو تلك‏.‏ ومن أبرزها تقرير التنمية البشرية الدولية أو تقرير حالة السكان في العالم أو تقرير الصحة العالمية‏.‏ كذلك هناك تقارير صادرة عن بعض المنظمات الدولية غير الحكومية‏,‏ مثل التقارير الصادرة عن منظمات‏'‏ العفو الدولية‏'‏ و‏'‏هيومان رايتس ووتش‏'‏ و‏'‏مراسلون بلا حدود‏',‏ وتقرير التنافسية العربي الصادر عن المنتدي الاقتصادي العالمي في دافوس‏.‏ وفي كثير من الأحيان‏,‏ يتم الاستعانة بها أي التقارير‏-‏ ك‏'‏ مراجع‏'‏ في إجراء البحوث والدراسات‏,‏ بل يتم الاستناد إليها في صنع السياسات واتخاذ القرارات‏.‏ وتتيح هذه التقارير الدولية معرفة الواقع الحقيقي للدولة في السياق العالمي وإدراك مكانتها في الإطار الدولي‏,‏ وأن اختلاف مواقع الدول من تقرير لآخر يرجع لاختلاف المنهجية‏.‏
علي الجانب المقابل‏,‏ هناك عدد من المراكز البحثية في الدول الغربية تقوم بوظائف سياسية ودعائية أكثر من الاضطلاع بمهام أكاديمية وبحثية‏,‏ وهو ما يفقدها صفة العلمية‏,‏ وأبرزها مؤسسة التراث‏'‏ الهيرتيدج‏'‏ وبيت الحرية‏'‏ فريدوم هاوس‏',‏ والتي تتبني مواقف سياسية وانحيازات أيديولوجية وتروج لعدد من الأحكام المطلقة والأفكار المغلوطة في قضية ما‏.‏ وبالتالي‏,‏ يغلب عليها عامل‏'‏ التسييس‏'‏ وعدم التدقيق مع خصوصية الحالة وعدم تقديم صورة كلية متوازنة وفي سياق محدد‏.‏ كما أنها تستقي بياناتها ومعلوماتها من مصادر أجنبية قد تكون مضللة في أغلب الأحيان‏.‏ والأكثر من ذلك أنها قد تبني رؤاها علي الصور المغلوطة التي يروج لها‏'‏ المطاريد‏'‏ أو الغاضبين في الخارج‏.‏
ومن تحليل مايرد في التقارير‏'‏ المنضبطة‏'‏ بصورة إجمالية‏,‏ فإن الحالة المصرية في التنمية أو التخلف ليست خاصة أو استثنائية‏,‏ حيث يمكن تلمس مكانتها من خلال المقارنة مع الخبرات والتجارب المختلفة لدول واقعة في أقاليم عدة في العالم‏,‏ عبر مؤشرات كمية وكيفية معا‏,‏ لفهم الأبعاد المختلفة لهذا القطاع أو ذاك‏,‏ ومدي حدوث تطور أو تراجع من فترة زمنية لأخري‏.‏ وربما يحدث تقدم جزئي لا ينعكس علي المؤشرات الكلية‏,‏ لكنه يشير إلي حدوث تطور في قطاع بعينه في بلد مثل مصر‏.‏
وعلي سبيل المثال‏,‏ تتحدد الحالة التعليمية وفقا لتقارير التنمية البشرية بمعدل معرفة القراءة والكتابة‏(15‏ سنة فأكثر‏)‏ ونسبة القيد في جميع المراحل التعليمية ونسبة القيد في التعليم الأساسي والثانوي وتوزيعها بين مدارس حكومية وخاصة وأزهرية‏.‏ أما الحالة الصحية فتتحدد بالعمر المتوقع عند الميلاد والأسر التي تحصل علي المياه المأمونة وعدد الأطباء بوزارة الصحة لكل عشرة آلاف نسمة وعدد الممرضات لكل عشرة آلاف نسمة وعدد الوحدات الصحية لكل‏100‏ ألف نسمة وعدد وفيات الرضع لكل ألف مولود حي وعدد وفيات الأمهات لكل‏100‏ ألف مولود حي‏.‏ وتقاس الحالة الاقتصادية بعدد من المؤشرات مثل متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ومعدل النمو‏,‏ والإجراءات المشجعة علي الاستثمار الأجنبي‏,‏ وتطور إجراءات مواجهة الفساد‏,‏ ونسبة الفقراء من السكان ونسبة الأشد فقرا من السكان ومعدل البطالة في الريف والحضر‏,‏ بالإضافة إلي معدل البطالة حسب المستويات التعليمية‏(‏ دون الثانوي‏-‏ الثانوي‏-‏ الجامعي‏).‏ وتقاس الحالة الإنتاجية بالنسبة المئوية لقوة العمل‏(‏ أكثر من‏15‏ سنة‏)‏ في الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات‏.‏
وتسجل أيضا بعض التقارير الاقتصادية الدولية تحقيق مصر للتقدم فيما يتعلق بفتح باب الاستثمار الأجنبي‏,‏ لكن ليس بالدرجة التي تنقله من حال إلي أخري‏,‏ كما جري مثلا في فيتنام حيث ارتفع من لا شيء تقريبا منذ عقدين إلي‏63‏ مليار دولار في العام الماضي‏,‏ بينما جري الارتفاع المصري من بضعة ملايين إلي‏13‏ مليارا منذ عامين و‏8‏ مليارات في العام الماضي‏.‏ يضاف إلي ذلك الطفرة التي تحققت في تكنولوجيا الاتصال ومجتمع المعرفة‏,‏ من خلال امتلاك أجهزة الكمبيوتر الثابت والمتحرك‏'‏ لاب توب‏'‏ والهواتف الثابتة والمتحركة والأطباق اللاقطة‏'‏ الدشات‏',‏ والتعامل مع شبكة الانترنت‏,‏ وهو ما يمكن أن يتلمسه الفرد بشكل مباشر في تعاملاته اليومية وفي طبيعة الخدمات المقدمة إليه والبيئة المحيطة به‏.‏
كما تشير التقارير الدولية إلي التحسن الحادث في مجال التنمية البشرية وخاصة الصحة الإنجابية وتخفيض وفيات الأطفال والأمهات في مصر‏.‏ ففي عام‏1980,‏ أي قبل ثلاثة عقود‏,‏ شهدت مصر أعلي معدل لوفيات الأطفال لدرجة وصلت إلي معدل وفيات الأطفال في أثيوبيا خلال عام‏2007,‏ لكن بمستوي تقدمها الراهن سوف تلحق بالسويد في العام الجاري‏2010,‏ وهو ما يشير إلي أن مصر تقع ضمن فئة البلاد التي تتجه إلي المسار الصحيح في هذا المجال أو ذاك‏.‏ كما تشير سلسلة تقارير التنمية البشرية الصادرة عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة إلي حدوث تراجع في جميع جوانب الحرمان البشري‏,‏ باستثناء البطالة‏,‏ خلال السنوات العشر الماضية‏,‏ وإن أبرزت تلك التقارير مع تقارير أخري صادرة عن البنك الدولي‏,‏ حالة التفاوت بين الأقاليم والمحافظات المصرية في مؤشرات التنمية المختلفة‏,‏ سواء بين الريف والحضر‏,‏ الوجه البحري والوجه القبلي‏.‏
المسألة إذن تقوم علي النسبية بين الماضي والحاضر‏,‏ وبين مصر والدول الأخري‏,‏ وحتي بين مصر ونفسها في أقاليمها ومناطقها‏,‏ ويحتاج الأمر إلي البحث في المجالات المختلفة عن أسباب تخلفها أو تراجعها أو نجاحها حتي يمكن نقلها والاستفادة منها‏.‏ وهناك تحد يواجه مصر في المرحلة القادمة يتعلق بضرورة قياس مستوي تقدم الأنظمة المؤسسية واللوائح التنظيمية والعراقيل الإدارية‏,‏ إذ أن البيروقراطية تمثل أم المشكلات التي يتعين الالتفات إليها في بلادنا‏.‏ فمازالت لقيم الولاء والانتماء أكبر الأثر مقارنة بالكفاءة‏,‏ كما أن الأولوية للأقدمية والتدرجية في الترقي الوظيفي داخل الجهاز البيروقراطي‏.‏ ولكن كل ذلك لا يكون مفيدا ما لم يكن في لغة رصينة بعيدة عن الإثارة واللعب علي المشاعر‏,‏ وساعتها سنكون قادرين ليس فقط علي معرفة الطريق الذي تسير مصر نحو المستقبل‏,‏ وإنما أيضا دور كل منا في صناعة المستقبل الذي نريده‏,‏ وعما إذا كنا علي استعداد لدفع ثمن ما نريد حيث لا يكفي المطالبة بأن تكون مصر مثل الدول المتقدمة الأخري من حيث الديمقراطية والتنمية‏,‏ وإنما الاستعداد للتغيير والتضحيات التي قدمتها‏.‏
[email protected]

المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.