فطنت مصر الرسمية أخيرا بوعيها وتوجهاتها الجديدة لنبذ النظرة بأن بلاد منابع النيل بعيدة عنا مسافيا وزمنيا. لقد أدركنا أن النظرة العلوية نظرة فارغة كما أن الموقف التهديدي حتي ولو علي حق لا ينتج عنه إلا زيادة التباعد مع الإصرار والتعنت. لقد أدركنا ضرورة الرجوع إلي ما كنا عليه من تعاون مشترك في مختلف المجالات وتقديم الدعم والتدريب بجوار تشجيع الاستثمارات في خطط التنمية لهذه الدول, وذلك تعبيرا عن علاقة الجيرة الحسنة والتي لا تقوم فقط علي الاشتراك في المياه. وقد ظهر هذا التعبير أخيرا بزيارات وفود علي مستوي رؤساء الوزراء والوزراء لدول افريقية منها الزيارة الرسمية الاخيرة للسودان شماله وجنوبه, كما رأينا زيارة شعبية لأوغندا والنتائج الجيدة التي وصلت اليها. وياحبذا لو امتدت هذه الزيارات الرسمية والشعبية إلي باقي دول الحوض لتوسيع سبل التعاون الفني والثقافي, وإلغاء أي مظنة لاحتمال وقوف مصر ضد أي مشروع يعود بالفائدة علي أي من هذه الدول طالما تم التنسيق عليه بين الدول جميعا. ومن أهم ما يجب ان يكون محل اهتمامنا اليوم هو توطيد العلاقات مع دول المنبع بخبرة مصرية في المياه والري والتنمية البشرية في الصناعة والسياحة هذا يعيد الثقة المتبادلة بازدياد مجالات الاتفاق والمصالح المشتركة. وفي البداية يجب الاتجاه أولا إلي المساعدات الفنية في زيادة كمية المياه المتاحة للري والكهرباء لجميع دول المنبع والمصب. ويمكننا بالتعاون مع دول الحوض وبالأخص السودان توفير نصف مياه النهر الأبيض من مليارات الأمتار المكعبة المفقودة بالبخر والتسريب بحفر قناة جونجلي لتفادي مساحات المستنقعات(13000 كم مربع) ومزروعاتها من البابيرس وغيرها من النباتات في مناطق السدsudd في جنوب السودان مع الاحتفاظ الأمثل بالمياه المتاحة من الأمطار والأنهار. ومن المشروعات المتداولة في هذا المجال في الكونغو كنشاسا حفر القناة بين نهري الكونغو والنيل لإنقاذ مليارات الأمتار من المياه المتدفقة من نهر الكونغو إلي المحيط الأطلسي. كما يمكن التعاون الفني مع دول المنبع في توليد الكهرباء وهو ما تحتاجه فعلا من مياه النيل من سدود تقام لهذا الغرض مع إقامة الشبكات اللازمة لتوزيع الكهرباء علي كافة بلدان الحوض. هذه السدود قليلة التأثير علي المياه العابرة إذا ما روعي التنسيق اللازم في أوقات ملء خزانات السدود بما فيها السد العالي. ومن جهة أخري فإن علي مصر تقديم إشارات لبث الثقة بالاهتمام بالعلاقات الإنسانية والفنية والاقتصادية مع دول المنبع في افريقا الوسطي وإثيوبيا ونحو هذا الهدف يجب التوسع في البعثات الدبلوماسية إلي هذه الدول وتوقف ثقافة ان افريقيا هي منفي للدبلوماسيين والعاملين. مصر غنية بالامكانيات المهنية والحرفية بل لديها منها ما هو زائد عن حاجاتها وعندما تستغلها في دول افريقية تتحول الزيادة السكانية من نقمة إلي نعمة وتحل مشاكلنا في البطالة. وعلي الشباب المصري الباحث عن عمل أن يتجه إلي مكاتب تشغيل خاصة بالدول الإفريقية بدلا من المجازفة مع الطبيعة وحراس الشواطيء الأوروبية بأقل الأجور بالمنافسة مع المهنيين والعمال الأوروبيين أصحاب الأرض. وقارة افريقيا كما ذكر مملوءة بالثروات الخام والفرص السانحة لمستثمري وشباب الثورة وخاصة إذا وفرت الدولة وسائل المواصلات الجوية والبحرية والأرضية بين العواصم والمواني المصرية والافريقية. وقد سعدنا أخيرا لمعرفة ان مصر قد دشنت باخرتين مخصصتين للإبحار النهري إلي أعالي النيل. وتحتاج مصر لمصلحة جميع الأطراف ان تدرس مشروعات استثمارية مطروحة من دول المنبع وقد يكون من هذه المشروعات بناء السدود الإثيوبية طالما أنها لا تتعارض مع الأمن المائي المصري ويكون ذلك بأخذ المبادرة بتقديم الخبرة الفنية مستعينة بالتمويل المبدئي من خلال برامج عديدة لبنوك محلية أو دولية. كما ان هناك مشروعات الخدمات الأساسية من الطرق والكباري ذات العائد الاقتصادي وذات التأثير المباشر والسريع علي حياة الناس. الكوبري يكلف قليلا وعوائده من رسوم عبور سريعة ويحل مشكلة الانتقال بين ضفتي نهر, وله تأثير مباشر لبعث الحياة في جزيرة أو بين قطاعين من مدينة. سترتفع أسعار أراض تقام عليها مشروعات تنمية بشرية تغير من حياة الملايين من مجموعات سكنية متكاملة مترابطة بين العمل والسكن والخدمات. وفي مجال الزراعة تحتاج الدول للتنظيم الزراعي لتكون افريقيا الوسطي موردا للقمح للعالم مما يخرجها من مجال المجاعات المشهورة والتي راح ضحيتها الملايين. كما يعود إيجارنا لأراض في هذه الدول مع الاستعانة بفلاحين مصريين بعائدات للغذاء عن شراء المنتج. وقد تقدمت فعلا شركات وأفراد مصريون لزراعة آلاف الأفدنة وإقامة صناعات مختلفة في السودان وغيره من بلدان افريقيا. ويا حبذا لو توسع ذلك النشاط كما فعلت اسرائيل بمئات من المشاريع الزراعية بإثيوبيا. وعلي المستوي الصحي يمكن تدبير القوافل والمستشفيات الطبية تحت وصاية هيئات دولية في تخصصات في امراض العيون والصدرية والجراحة والجلدية وغيرها. ومن الممكن تطوير الزراعة وتربية الحيوانات ومصايد الأسماك مع الاستفادة بها وتصديرها كمنتجات ولحوم وأسماك إلي مصر وأوروبا لمصلحة أهل بلاد المنبع. ومن المهم المشاركة في التنمية البشرية بالخبرات ورؤوس الأموال وان نعرض خبراتنا في التطوير العمراني والمعماري في مجال الاسكان والتعليم والترفيه والمراكز التجارية والصناعات الحرفية والصيانة. كما يمكن الاشتراك في التنمية السياحية بخبرات المصريين في إنشاء القري والفنادق السياحية وهي صناعة هامة في كافة بلاد المنبع لغناها بآثار التراث العالمي( إثيوبيا) وبالمناظر الطبيعية كالشلالات والكهوف والينابيع البركانية الحارة والغابات والحيوانات المفترسة ومنها ما هو آخذ في الانقراض بسبب زحف التحضر عليها. وتلعب الارتباطات العقائدية دورا كبيرا في التقارب بين الشعوب خاصة ان جزءا من سكان هذه الدول يدينون بالديانتين المسيحية والاسلام, ومصر مركز مهم ومرموق لهذه الديانات ممثلة في قمة الكنيسة المسيحية الارثوذكسية والأزهر الشريف. ومن الممكن تبادل الكفاءات والشخصيات الدينية بالمؤتمرات وإرسال البعوث لاقامة الشعائر في المناسبات وتقديم المنح الدراسية. ومن البوادر الطيبة في العلاقات التعليمية والثقافية والإعلامية ما حدث اخيرا من افتتاح لفرع لجامعة الاسكندرية في قرية كونج جنوب السودان وقد بدأت فعلا مرحلة الإنشاء علي3000 فدان. وقد بدأ وصول ستين من طلاب الفرع إلي جامعة الاسكندرية إلي حين الانتهاء من الإنشاءات. كما ستؤثر إمكانيات التعليم والتدريب المهني المتطور والجامعي العام والتخصصي والبحث العلمي والمنح الدراسية في فرع جامعة القاهرة في الخرطوم والمهيأ لاستقبال الشباب الإفريقي من الطلبة. كما أن علي جامعتنا ان تتخصص فيها كليات لاستقبال الطلبة الإفريقيين القادمين بمنح تعلم وإقامة وهو الذي توفر من قبل في جامعة شبرا. وتمثل المعارض المتبادلة بين دول المنبع والمصب وسيلة لزيادة الصادرات والواردات المبنية علي دراسات وافية للأسواق ويمكن إلغاء الجمارك بين دول الحوض للحصول لميزة تنافسية أمام المصدرين والموردين الآخرين من جنوب افريقيا والصين واسرائيل. دبلوماسيا يجب زيادة الاهتمام بمشاكل دول المنبع مع المشاركة في مؤتمراتهم الأمر الذي طال اهماله في العشرين عاما الماضية. ومن المعتقد أن مصر بمجهودات التعاون السابقة والمقدمة بعد ثورة25 يناير ستحل مشاكل البطالة كما ستكون أكثر إلهاما وتشجيعا لهذه الدول لتلافيهم لأي إضرار بحصة مصر من المياه كما صرح أخيرا بذلك رئيس جمهورية أوغندا. كما ظهرت مبادرة من كينيا لإعادة فتح المفاوضات علي أساس المنفعة والمصالح المتبادلة. هذا وسيؤدي تحسن العلاقات الاقتصادية والفنية والإنسانية إلي عكس ما نخشاه أي إلي زيادة الحصة السنوية لمواجهة المشروعات الحيوية في صحارينا الشرقية والغربية لمواجهة الزيادة السكانية المتوقعة. المزيد من مقالات د. على رأفت