تكريم رئيس هيئة النيابة الإدارية خلال احتفالية كلية الحقوق جامعة القاهرة    رابط نتيجة الاختبارات الإلكترونية للمتقدمين لوظائف معلم مساعد مادة رياضيات    خبراء يحذرون: الزمن هو الخطر الحقيقي في النزاع النووي الهندي الباكستاني    اختيار رئيس جهاز حماية المنافسة لعضوية المجلس المُسير لشبكة المنافسة الدولية    تذبذب أسعار الذهب في منتصف تعاملات الخميس 8 مايو    جيش الاحتلال يواجه صعوبات في إخلاء جنوده من منطقة الاشتباك مع المقاومة الفلسطينية    والا: اتفاق محتمل لتولي صندوق إغاثة غزة مهمة إدخال وتوزيع المساعدات بعيدا عن حماس    حرب الإبادة    وزارة الرياضة ليلا كورة: القانون الجديد في البرلمان الأسبوع المقبل.. ومفاجأة بند ال 8 سنوات    أعمال شغب واعتقال 44 شخصاً خلال احتفالات جماهير باريس سان جيرمان بتأهله لنهائي دوري الأبطال    تشكيل مباراة أفريقيا الوسطى وغانا في أمم أفريقيا للشباب    الرياضية تكشف موعد انضمام ماركوس ليوناردو لتدريبات الهلال    مصرع شخص دهسته سيارة محملة بأسطوانات البوتاجاز بقنا    «رسالة حاسمة قبل دقيقة من وفاتها».. النيابة تكشف تحقيقات واقعة طالبة الزقازيق    النجم العالمى مينا مسعود يزور مدينة الإنتاج الإعلامى ويشيد بإمكانياتها    في عيد الوالدين، قافلة الثقافة الكورية تزور مكتبة مصر العامة ببورسعيد    الجونة السينمائي يعلن عن برنامج مميز بالجناح المصري في مهرجان كان    مدبولي: «أورام طنطا الجديد» يسهم بشكل كبير في تحسين نسب الشفاء    تاج الدين: الربو أحد أكثر الأمراض المزمنة غير المعدية شيوعا.. ويتسبب في 450 ألف حالة وفاة سنويا    الحكومة: أسعار جلسات الغسيل الكلوى ثابتة دون زيادة وتقدم مجانًا للمرضى    لدخول السوق الرئيسي.. بدء اكتتاب زيادة رأسمال بريمير هيلثكير في البورصة    وزير الاتصالات: إتاحة 180 خدمة حكومية عبر منصة مصر الرقمية    محافظة الجيزة ترفع 150 طن مخلفات في حملات نظافة مكبرة    «لو صاحبك من الأبراج دي أوعى تحكيله سرك».. أبراج لا تعرف كتم الاسرار    اختتام فعاليات مؤتمر تنظيم الاتصالات لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا بالقاهرة    قنا تستعد لجذب المستثمرين بطرح مشروعات سياحية وخدمية وترفيهية قريبًا    موعد بداية ذي الحجة 1446.. متى تحل وقفة عرفات وعيد الأضحى 2025 في مصر؟    بيتر ميمي يروج ل"المشروع X" ويعلق: "مختلف جدًا"    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    رفع درجة الاستعداد بمدارس البحيرة استعدادا لاستقبال امتحانات الفصل الدراسي الثاني    أزعجتهم خلال علاقة محرمة.. سيدة وعشيقها يقتلان رضيعة في الهرم    الفنان محمد عبد السيد يعلن وفاة والده    تصاعد دخان أسود من الفاتيكان في اليوم الثاني لمجمع الكرادلة المغلق |فيديو    كرة يد - الاتحاد يكرم باستور علي هامش مواجهة مصر الودية ضد البرازيل    الهلال السعودي يرصد 160 مليون يورو لضم ثنائي ليفربول    الكرملين: الحوار بين روسيا والولايات المتحدة مستمر    محافظ مطروح يتفقد تصميمات الرامبات لتيسير التعامل مع طلبات ذوي الهمم    محافظ الفيوم يتابع أنشطة فرع الثقافة في أبريل    عضو مجلس المحامين بجنوب الجيزة يثبت الإضراب أمام محكمة أكتوبر (صور)    بغرض السرقة.. الإعدام شنقًا للمتهمين بقتل شاب في قنا    انخفاض عمليات البحث على "جوجل" عبر متصفح سفارى لأول مرة لهذا السبب    وزير قطاع الأعمال يبحث مع سفير إندونيسيا فرص التعاون الاقتصادي والاستثماري    نائب وزير الصحة يتفقد وحدتي الأعقاب الديسة ومنشأة الخزان الصحية بأسوان    أشرف عبدالباقي: يجب تقديم بدائل درامية لجذب الجمهور دون التنازل عن القيم أو الرسالة (صور)    خالد بيبو: كولر ظلم لاعبين في الأهلي وكان يحلم بالمونديال    مراكب وورد ومسيرات طلابية في احتفالات العيد القومي لمحافظة دمياط    اختناق 4 أشخاص في حريق بمكبس كراتين خردة بسوهاج    أسقف المنيا للخارجية الأمريكية: الرئيس السيسي يرعى حرية العبادة (صور)    وزير الصحة يستقبل نقيب التمريض لبحث تطوير التدريب المهني وتعميم الأدلة الاسترشادية    أمين الفتوى يكشف عن 3 حالات لا يجوز فيها الزواج: ظلم وحرام شرعًا    الإسماعيلي ضد إنبي.. الدراويش على حافة الهاوية بعد السقوط في مراكز الهبوط    ميدو يفجّرها: شخص داخل الزمالك يحارب لجنة الخطيط.. وإمام عاشور الأهم وصفقة زيزو للأهلي لم تكن مفاجأة    موعد إجازة المولد النبوي الشريف لعام 2025 في مصر    الحماية المدنية تسيطر على حريق نشب بهيش داخل أرض فضاء بالصف.. صور    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 8-5-2025 في محافظة قنا    الكرملين: محادثات بوتين وشي جين بينج في موسكو ستكون مطولة ومتعددة الصيغ    الجيش الباكستاني يعلن إسقاط 12 طائرة تجسس هندية    سبب إلزام النساء بارتداء الحجاب دون الرجال.. أمين الفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوري جاجارين

إذا ما كان جاجارين قد مضي علي دورانه حول الأرض خمسون عاما‏,‏ بينما لم يمض علي دوران نافوخي أكثر من شهرين هما عمر الثورة المصرية فإن كلا منا دار وداخ وشاهد العجب العجاب مما رأي ومما حصل‏..‏ يوري جاجارين رائد الفضاء الأول الذي ارتقي أعمدة الجو في21 ابريل1691 علي متن مركبة الفضاء السوفيتية فوستوك, وتخطي الجاذبية وانطلق يشق الأجواء إلي البعيد النائي, واستطاع أن يأخذ الحيطة من حوادث المصادمات بين سفينته التي انطلق بها وبين ملايين النيازك والشهب التي تخترق الغلاف الجوي بين لحظة وأخري.. جاجارين الذي قاسوا له ضغطه وحرارته ونبضه قبل الدوران وبعده فوجدوا أن كل شيء طبيعي وتمام, فالضغط511 علي57 والحرارة63,7 والنبض..46 وفي الليلة الموعودة لغزو الفضاء رفض يوري تعاطي أي منوم, وخلال سبع دقائق فقط استغرق في السبات العميق ليقول الطبيب المشرف علي البرنامج الفضائي أنه دخل إليه علي أطراف أصابعه بعد نصف ساعة من حديثه معه فوجده يأكل أرزا مع الملائكة, وكان مستلقيا علي ظهره واضعا ذراعه خلف رأسه, وبعدها أطل الطبيب عليه عشرات المرات خلال الليل متعمدا إحداث أصوات خفيفة بجواره للتأكد من عمق نومه, فكان يوري ولا هو هنا علي مدي عشر ساعات كاملة يتنفس فيها بانتظام عقارب الساعة.. هذا بينما سارت مسيرتي أنا خلال ساعات ودقائق وثواني رحلة الشهرين ونصف الماضية وضغطي في أوج العلالي, وحرارتي داخل فرن قايد, ونبضي في الباي باي, والنوم عزيز, فكيف بالله يأتي العزيز والأصبع اللاإرادي يدور طول الليل باحثا بشراهة عن الجديد في أخبار القناة الثانية ودريم والعربية والجزيرة وبرامج التوك شو, وما ينقله البلاك بيري علي شاشة موبايل ابن أختي.
كلانا أنا وجاجارين عشنا مرحلة انعدام الوزن التي قال هو عنها ما بين مناطق الجاذبية والخروج الآمن منها: شعرت في أول الأمر بعدم الارتياح لكني سرعان ما تعودت علي الوضع الجديد داخل السفينة وهي في طريقها الفضائي إن انعدام الوزن بالنسبة لسكان الأرض ظاهرة غريبة لم يمارسها أحد, لكن المرء في الفضاء سرعان ما يؤقلم نفسه عليها, ففيها يشعر الواحد بخفة غير عادية في جميع أطراف جسمه حتي أنني طرت من مقعدي وعلقت في الهواء بين السقف وأرض الكابينة, وبدا لي كما لو كانت ساقاي وذراعاي لا علاقة لي بها, وأن جسدي كله ليس له وزن, وساعتها لن تكون في وضع الجلوس أو النوم وإنما سابحا في الهواء, وإلي الجوار تعوم جميع الأشياء غير المثبتة التي تراقبها كما لو كنت في حلم.. حقيبة الخرائط.. القلم.. نوتة المذكرات.. قطرات من السائل الذي يتساقط من أنبوبة الشراب يأخذ شكلا غاية في الغرابة وهو يسبح تجريديا في الفضاء, ولكن في الحقيقة إن انعدام الوزن لا يؤثر علي قدرات المرء بالنسبة للعمل, فقد واصلت أداء مهامي طوال الوقت.. أراقب الأجهزة, وأتابع مناظر الفضاء الخارجي من حولي خلال كوات السفينة, وأسجل جميع ما أراه بقلم رصاص عادي, وأبدا لم أجد صعوبة في الكتابة, ونسيت للحظة أين أنا وشعرت وكأنني في بيتي, مما جعلني سهوا أضع القلم بجواري فسبح بعيدا عني, ولشعوري بأن كل ثانية لها قيمتها أمسكت سريعا بميكروفون التسجيل لأشرح ما أراه أثناء سباحتي وراء القلم المعاند الذي يهرب يمينا وشمالا.. ويبدو أن القلق قد أصاب الأرض التي بعثت لي برسالة تطلب وضعا دقيقا لما أراه فقلت لها: أستطيع أن أميز بوضوح حدود الجبال الكبيرة, والأنهار الطويلة, والغابات الضخمة, وشواطئ البحار.. الشمس أكثر سطوعا مئات المرات مما إذا نظرت إليها من فوق اليابسة.. الأرض من تحتي جسم بيضاوي ضخم يفيض بالألوان الزاهية الحية, وحولها قوس أزرق شاحب, وقد أخذ القوس يظلم تدريجيا ليصبح في لون التركواز, ثم الأزرق, ثم الأرجواني, وبعدها في لون الفحم.. وقد ظل قلق الأرض قائما مما قد يصيبني من سلبيات انعدام الوزن ليسألونني عبر الأجهزة بين لحظة وأخري.. كيف حالك؟ فيكون ردي أن كل شيء تمام.. ولأن شهيتي لم تكن مفتوحة فقد أثار ذلك قلق مركز المراقبة ليقوم العالم سيرجي كوروليف الأب الروحي لبرامج الفضاء السوفيتي بتشجيعي علي تناول الطعام بنفس أسلوب أمي الحنون القائم علي التهديد والترغيب بما معناه اللي ياكل علي ضرسه ينفع نفسه وقد تم تسجيل حواره معي علي شريط لأسمعه بعد هبوطي علي الأرض وكان يقول لي: رجاء يا بني ألا يشغلك ما حولك ولا الاهتمام فيما إذا كنت تطير فوق المحيط أو ثلوج جبال كاليمانجارو عن تناول طعامك, فقد لاحظنا أن إفطارك لم يكن مثاليا أو علي مستوي مهمتك التاريخية, لهذا نأمل تعويض ذلك في وجبات الغداء والعشاء, وإن لم تكن هناك مائدة حافلة بالأطباق إلا أن ال36 قرصا التي تحملها تحتوي علي خلاصة السجق والجمبري والمربي.. هذا والشاي غير بعيد عن متناول يدك, وأعدك عند هبوطك إلي الأرض دعوتك إلي وجبة طازجة ساخنة مع كئوس الفودكا.
هذا ما كان من أمر انعدام وزن جاجارين, أما ما حول انعدامي أنا فقد أتي من سرعة دوران المتواليات والمتتاليات والتغييرات والترشيحات والفئويات والمكلمات والأخبار المذهلات في بلدي.. حتي كاد البرج الفاضل من نافوخي أن يطير بعدما جري ما قد جري في شرم الشيخ وما قبلها من المليونيات وأطفيح والإخوة الزمر وبنت السادات وأخت السادات وحفيدة السادات وحزب السادات والشاذلي وشهدان بنت الشاذلي ومني الشاذلي وحقوق النوبة وعودة أكتوبر وحلوان والشعب يريد ونحس الرقم51 وراتب شيخ الأزهر المتبرع به والعند يورث الكفر وتحت السيطرة وسماع الشهود وتضخم الثروة والبنوك حرام وأبوجلابية والتكنوقراط ومدونة مايكل نبيل والتيار السلفي والفجوة الفكرية واللوحات المعدنية وفلول النظام والثورة المضادة والبلطجية والراجل الواقف وراء عمر سليمان ومراجيح الهواء وتسيير الأعمال وقنابل البالوعة وكنتاكي الميدان والساعات الألماظ والحمص الشامي وحب العزيز والحلبسة علي شط النيل وتحت الكوبري والحوار الوطني كلاكيت للمرة الثانية وعميد عنيد عايزينه يمشي مابيمشيش, والفارق بين الكلبة لايكا رائدة الفضاء والكلبة إيجي كلبة نظيف التي أنجبت له ثلاثة جراء يقوم علي خدمتها أمين عام وطاقم أطباء بيطريين, وعربة الترحيلات, وسيد قراره بلا قرار.. و..زكريا جوه.. و..الفقي جوه وكامل جوه والعادلي جوه والشريف جوه والمغربي جوه وأبو طويلة جوه.. والشيخ جوه.. و..مبارك جوه.. والشقيقان جوه.. وسليمان جوه ومرتضي جوه.. و.. وواحد وواحدة واثنين وعشرة وعشرين لسه كلتهم بره.. والدور الدور موعودة ياللي عليكي الدور.. ومدد يا سيد يا بدوي.. كل هذا علي مدي شهرين ونصف كنت قبلها عاقلة ومنعوتة بالاتزان, لكن ما كان ويكون قد أدخلني في مرحلة الانعدام.. ربما من جراء سرعة تحقيق المرام.. وصدق قوله تعالي: إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر علي ما لم تحط به خبرا..
البشرية تحتفي هذه الأيام بمرور خمسين عاما علي انطلاقة أول رحلة للإنسان في الفضاء الخارجي.. الاحتفاء الذي سيوازي في التاريخ انطلاقة ثورة الإنسان المهمش بفعل حكامه علي أرض النيل الذي قام وثار ليلوي عنق الخيال فيجعله واقعا فريدا لتعيش مصر من بعد أحكام الفقر والقهر أزهي عصور العدالة.. جاجارين الذي زار مصر مرتين خلال عمره ال43 أولاهما كانت بدون تأشيرة دخول يوم21 أبريل1691 عندما مرت سفينته فوستوك فوق أفريقيا علي ارتفاع023 كيلو مترا ليشاهد نهر النيل كشريط رفيع يتخلل الصحراء قبل أحلام يقظة الدكتور فاروق الباز وممر التنمية ثم انتهي بالأراضي الخضراء.. وكانت الزيارة الثانية عندما اشترك في أعياد الشباب المصرية باستاد القاهرة في2691 حيث قدم له درع الشباب القومي الذي يعلوه نسر الجمهورية, وبعدها قام بزيارة لبورسعيد الباسلة, حيث أهداه محافظها حفنة من ترابها المختلط بدماء شهدائها موضوعة في الحرير الأبيض.. وجاء في برنامج زيارته صعوده لبرج القاهرة, وجولة في المتحف المصري, وغداء في كافيتريا خوفو, حيث دخل هرمه الأكبر ومكث داخله طويلا في حجرة الملك والملكة, وأثار إعجابه البالغ بطل التسلق حفناوي الذي قام بالصعود أمامه للهرم في ثلاث دقائق والهبوط في دقيقتين فقام باحتضانه وقدم له ميدالية تذكارية.. وكان عبدالناصر قد أرسل دعوة لجاجارين لزيارة مصر بعدما قام بتهنئة نيكيتا خروشوف بنجاح الاتحاد السوفيتي في إطلاق أول إنسان إلي الفضاء جاء في سياقها: إذا كنت أقول إن هذا النصر الجديد هو انتصار للإنسانية كلها فمعني ذلك أنه في نفس الوقت انتصار للسلام, ولقد أكد هذا المعني في نفسي أنكم انتهزتم هذه الفرصة فوجهتم نداء حارا جديدا من أجل الاتفاق علي نزع السلاح ليكون انتصار الإنسان كاملا لا تؤرقه الأخطار الناجمة عن تحويل الأرض إلي ترسانة للسلاح.. ويستقبل عبدالناصر رائد الفضاء في منزله بمنشية البكري, مقدما له أولاده خالد وعبدالحميد وعبدالحكيم وهدي ومني وأهداه قلادة النيل التي ارتداها في اليوم التالي وهو جالس إلي جوار ناصر في مهرجان الشباب, حيث توج كلمته بأن مستقبل الدنيا في أيدي الشباب الذي يستطيع أن يحول الحلم إلي حقيقة.. وظهر جاجارين خلال زيارته لمصر في برنامجين بالتليفزيون أحدهما وجها لوجه الذي قدمته تماضر توفيق, والثاني ضيوف القاهرة, وقامت المذيعة الرائدة آمال فهمي بإجراء حوار إذاعي معه علي الناصية بدأته بالتحية الروسية: دوبري أوتورا فأجابها جاجارين بالعربية: صباح النور.. وتسأله آمال: تحب تسمع إيه؟ فيجيبها: أغنية روسية تقول: أنا أؤمن أيها الأصدقاء أن قوافل الصواريخ ستحملنا بسرعة إلي الأمام.. من نجمة إلي نجمة, وعلي الدروب النائية, وفي الكواكب البعيدة.. البعيدة.. ستبقي آثارنا هناك.. وكانت مشكلة جاجارين في التصوير قصر قامته, وفي كل مرة يحاول فيها أحد المصورين أن يلتقط له صورا مع ضباط الطيران المصريين كانت تبوء المحاولة بالفشل, وفي حفل نادي الضباط نجح في حل المشكلة عندما اعتلي إحدي المناضد ليقف بجواره الحاضرون في صورة تذكارية لم يظهر فيها سوي نصفه العلوي.. ويسأله الكاتب الراحل عبدالرحمن الخميسي لماذا رفضت أن تركب الجمل في زيارتك لأهرامات الجيزة؟ فيجيب جاجارين: هوايتي أن أركب الصاروخ المنطلق, لا أن أركب الجمل ليؤرجحني فوق الرمال, ثم إنني لست نجما سينمائيا أو ممثلا مسرحيا من النوع الذي يروق له أن يلتقط له الصحفيون صورة سياحية فوق ظهور الجمال! ولا يمضي شهران فقط علي رفض جاجارين أن يكون نجما سينمائيا يركب الجمل عند أهرامات الجيزة حتي يحضر مهرجان السينما العالمي الذي عقد في موسكو لتهرع إليه النجمة الإيطالية الحسناء جينا لولو بريجيدا لتنهال عليه بالقبلات أمام عدسات المصورين, ويعلق جاجارين في المؤتمر الصحفي الملحق بالمهرجان بأن نجوم السينما كالكواكب الكونية يصعب الوصول إليها حتي لرجال الفضاء, فتصرخ عليه جينا من مقعدها في أول صف: ولكننا اليوم يا عزيزي لسنا علي هذا البعد!!.
ولأننا بشر فنظرية المؤامرة لابد وأن تكون علي الدوام ماثلة في الأذهان لتواكب جميع الأحداث الحرجة التي قد تؤدي إلي انفراجة كبيرة أو إظلام تام, وبالتالي فقد لعبت تلك النظرية في ختام مشهد جاجارين دورا بارزا حيث أثارت رياح الريبة والتوجس لدي السلطات السوفيتية من مدي شهرته الطاغية التي فتحت أمامه أبواب المجد كأول رائد فضاء أصبح بطلا يجول العالم ليستقبل بحفاوة رسمية وشعبية علي مدي سنوات معدودة كان جدول ساعاته فيها مزدحما برحلات ولقاءات مكثفة, منها جلوسه إلي يمين ملكة إنجلترا في حفل خاص علي مائدتها بقصر باكنجهام في القاعة التي شغلها قيصر روسيا نيقولاس عام4481 وسميت باسمه, وحضر المأدبة الأمير فيليب زوج الملكة وعدد من الشخصيات البريطانية التي تمثل جميع أفراد الشعب, ووقف أمام قصر باكنجهام أكثر من7 آلاف شخص يحيطون بسيارة رجل الفضاء الروسي.. أثار صعود نجم جاجارين الصاروخي غيرة قادة الكرملين تخوفا من أن يتحول إلي زعيم سياسي, ومن هنا تم وضع المخطط المضاد للتخلص منه كما جاء في أحدث كتاب للكاتب الروسي بيروفوشيه عنوانه801 دقائق غيرت العالم صدر هذا الأسبوع في موسكو بمناسبة نصف قرن علي رحلة جاجارين فأذاع راديو موسكو خبر مصرع الكولونيل يوري ألكسيافيتش جاجارين أول إنسان في التاريخ صعد إلي الفضاء الخارجي ودار حول الأرض وذلك في حادث سقوط طائرة ميج كان يقوم باختبارها في51 مارس..8691 وتظل تفاصيل النهاية غائبة عن ملفات التحقيق ساقطة عمدا مع سبق الإصرار والترصد من الأوراق ومما يوحي بتعمد الحادث الذي قيل إنه بسبب خطأ ارتكبه جاجارين وهو يحاول تفادي الاصطدام بأحد الأبراج, أو اعتراض سرب من الطيور كان يطير بدوران حلزوني مسار الميج.. ويذهب خروشوف ويأتي جورباتشوف بسياسة البيريسترويكا لتقرر الحكومة إعادة فتح ملف القضية من جديد, حيث جاء في خلاصة تقرير اللجنة أثبت التحقيق وجود خطأ بشري خطير ناجم عن سوء تنظيم الرحلات الجوية, فبعد دقيقة واحدة من إقلاع طائرة جاجارين أقلعت طائرتان ميج إلي نفس المجال الجوي, حيث لم تبعد إحداهما عنه سوي أقل من005 متر فقط لتخلف وراءها دوامة هوائية هائلة أدت إلي وقوع الكارثة.. وتستلم فالنتينا رسالة جاءتها متأخرة من زوجها يوري حفظتها الأجهزة السوفيتية في مكان سري علي مدي ثلاث سنوات كان قد كتبها قبل صعوده إلي سفينة الفضاء, وأوصي بعدم فتحها إلا بعد وفاته يقول فيها: كنت أتمني ألا تقع عيناك علي هذه السطور أبدا.. لكن كلماتي مادامت الآن بين يديك فمعناها أنني قد انتقلت بجسدي وروحي للفضاء الخارجي.. حبيبتي لا تحزني.. وتذكري أن الموت قد لا يصيبنا لأننا صعدنا منازل الهواء فربما تعرضنا للحوادث القاضية حتي ونحن نسير علي أرض مستوية!
جاجارين الذي راح من شرفته العليا علي الأرض يطل, فإذا الشطآن والأبحر أجفان وأعين, وبدت في عينه الدنيا صغيرة, كرة تلهو بها كف قديرة, ورأي كيف ارتمي الليل علي صدر النهار, ثم ذابا في عناق الحب حتي الاحتضار..!
ومضت السنون ولم تتزوج فالنتينا بعد رحيل جاجارين لتكرس حياتها لإحياء ذكراه, وكبرت البنات جالينا ويلينا لتقوم جالينا بالتدريس في أكاديمية الاقتصاد, بينما تخصصت يلينا في التاريخ وعلوم الشرق ليعينها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في منصب إحدي مديرات متحف الكرملين.. وبمناسبة مرور نصف قرن علي رحلة جاجارين الخالدة قامت الأسرة وعلي رأسها يوري الحفيد الذي يشبه جده صورة طبق الأصل بافتتاح متحفه الخاص في مقاطعة سمولينسك مسقط رأس رائد الفضاء الأول الذي يضم متعلقاته الشخصية وكراساته المدرسية, ومقعد الكابينة الفضائية التي هبطت به, ونسخة من مذكراته التي صدرت مواكبة لاحتفالية رحيله والتي جاء في آخر صفحة فيها: في كل مكان كنت أسافر إليه يزدان صدري بمزيد من الأوسمة التي أعطيت لي فقط لما أمثله من انتصار الإنسان علي الطبيعة ورغبته في اكتشاف المجهول, وإني لأذكر أنه في اليوم التالي لهبوطي علي الأرض قابلت أستاذي القديم الذي علمني الطيران فقلت له: أشكرك لأنك قدت أولي خطواتي للفضاء, فأجابني: إن الأجنحة تنبت من الطيران.. لقد قال الحقيقة, وليس الأمر سوي البداية, فأنا لازلت شابا, ولا أنوي أن أطوي أجنحتي, لقد رفعتني عاليا إلي الفضاء مثل النسور في طريق النجوم المضيئة.. نعم.. ليست سوي البداية.. و..بعد يومين من تلك السطور مات جاجارين ليدفن مع العظماء في جدار الكرملين!!
وأغادر المركبة فوستوك والميجور جاجارين برماده المدفون في جدار الكرملين.. ناشدة عبور مرحلة انعدام الوزن وحراسة القلق والدوران في حلقات سعير الأخبار.. راغبة وبشدة الخروج من أحداث فيلم المستحيل السيريالي.. داعية العزيز القدير أن ينجينا جميعا من أحقر غرائز الإنسان ألا وهي التشفي, التي تحولنا إلي أكلة لحوم البشر, وتغلق في وجوهنا نوافذ الأمل, وتصرع الغد, وتفقأ عيون المستقبل.. و..معذرة.. يبقي في الجعبة سؤال.. هو صحيح الحاذق جوه.. وعسل جوه!!! يا سبحان الله.. اللهم لا شماتة!
[email protected]

المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.