كرست حكومات الرئيس المخلوع أسلوبا يتسم بالعشوائية والتجاهل في التعامل مع القطاع الزراعي مما أدي في النهاية إلي ترك الفلاحين بلا حماية حقيقية, وتعرضهم لاستغلال مزدوج من تجار ومستوردي المدخلات الزراعية, ومن تجار الحاصلات الزراعية والخضر والفاكهة الذين يشترونها من الفلاحين بأسعار متدنية, تصل في بعض الأحيان إلي أن تكون أقل من تكلفة جمعها من الأرض, مما يدفع بعض المزارعين إلي إعدام إنتاجهم من الطماطم حرثا في الأرض في بعض المواسم. كما أنهم يتعرضون لمنافسة غير عادلة من مزارعي الدول الأخري التي تقدم دعما كبيرا لمزارعيها, مما أضر بمحصول القطن المصري بضراوة, وكذلك الأمر بالنسبة لزراعة القمح, مما يقتضي مواجهة أثر السياسات الزراعية التي تتبعها الدول الأخري وتؤثر علي الفلاح المصري, من خلال سياسات تسعير ودعم فعالة. ومن خلال قيام الدولة بدور التاجر المرجح في سوق المدخلات والمحاصيل والخضر والفاكهة, الذي يتدخل في السوق لتحقيق التوازن السعري, وحماية الفلاحين من الاستغلال, وحماية المستهلكين أيضا من استغلال التجار. وأيضا من خلال سياسة إقراض ميسر للفلاحين الصغار بالذات بأسعار فائدة منخفضة لتمكينهم من تأسيس مشروعات صغيرة لتسمين الماشية وتربية الأرانب والدواجن, وهي المشروعات الأعلي ربحية في القطاع الزراعي حاليا. ويشكل ارتفاع أسعار الأسمدة أحد الأمور المرهقة للمزارعين المصريين. وكانت تصريحات وزراء حكومات مبارك, وآخرهم وزير الصناعة والتجارة الأسبق رشيد محمد رشيد الذي يخضع حاليا لمحاكمة تتعلق بتهم بالفساد, تركز دائمل علي أن شركة أبو قير للأسمدة المملوكة كلية للدولة, تبيع الأسمدة بسعر لا يتجاوز نحو23% من السعر العالمي, وهو أمر غير صحيح وتم القياس علي أعلي مستوي للأسعار وليس علي متوسط الأسعار العالمية, دون ذكر أي شيء عن سعر الغاز الطبيعي الذي كانت تلك الشركة تحصل عليه والبالغ نحو1.6 دولار للمليون وحدة حرارية بريطانية, قبل أن يتقرر رفعه إلي3 دولارات للمليون وحدة حرارية بريطانية, وهو سعر يوازي ما يتراوح بين71%,72% من سعر الغاز الطبيعي في السوق العالمية. أي أن تصريحات رشيد نظرت لمصلحة شركات الأسمدة في بيع إنتاجها بالأسعار العالمية, ولم تنظر لمصلحة المزارعين أو الشعب الذي منحها الغاز الطبيعي بأسعار بالغة التدني, علما بأن هذا الغاز الطبيعي مملوك لكل أبناء مصر بالتساوي شأن كل الموارد الطبيعية في مصر أو في أي بلد آخر من بلدان العالم. وقد اعتادت شركات الأسمدة الخاصة المحلية والأجنبية وحتي الشركات الحكومية, الترتيب مع المنتفعين منها لحملة لمواجهة رفع أسعار الغاز الطبيعي وهو المكون الرئيسي لبعض أنواع الأسمدة, رغم أن أسعار الغاز الطبيعي حتي بعد رفعها, توازي ربع الأسعار في الأسواق الدولية. ووفقا للميزانية التي نشرتها شركة أبي قير للأسمدة في أكثر من صحيفة عن أدائها المالي في العام2008/2007 علي سبيل المثال, فإن رأسمالها بلغ688.4 مليون جنيه, في حين بلغ صافي ربحها بعد خصم الضرائب, نحو990.4 مليون جنيه في العام المالي المنتهي في نهاية يونيو2008, أي نحو441% من رأس المال, كما أن صافي إيراد المبيعات بلغ نحو2252 مليون جنيه في السنة المالية نفسها, في حين بلغت تكلفة هذه المبيعات نحو990.5 مليون جنيه. أي أن الفارق بين تكلفة المنتج وبين إيراد بيعه بلغ1261.5 مليون جنيه, بنسبة4.721% من تكلفة المنتج. وهذا المستوي من الأرباح الاستثنائية ليس ناجما عن كفاءة استثنائية, بل إنه ناجم عن علاقة مختلة بين شركات تحصل علي المكون الرئيسي لإنتاجها وهو الغاز الطبيعي بأسعار بالغة التدني, بينما تبيع إنتاجها بأسعار مرتفعة لا علاقة لها بتكلفة الإنتاج. والأصل في تسعير المنتجات هو تكلفة إنتاجها, وليس المحاذاة علي أسعار عالمية مرتبطة بتكاليف مختلفة تماما عن تكاليف الإنتاج في مصر. والحقيقة أنه علي الحكومة مادام قد تم تحرير أسعار الأسمدة لتصل إلي مستوي الأسعار العالمية أن تجبر شركات الأسمدة علي دفع ثمن الغاز الذي تحصل عليه بالأسعار العالمية المرتفعة لتدخل حصيلة بيع الغاز لها بهذه الأسعار, إلي الموازنة العامة للدولة وتستخدم في دعم الأسمدة المقدمة للمزارعين المصريين لتمكينهم, وبالذات من يزرعون المحاصيل الاستراتيجية مثل الحبوب والقطن, من التنافس بصورة عادلة مع نظرائهم المدعومين من حكوماتهم في غالبية بلدان العالم وبالذات في البلدان الصناعية المتقدمة. أما بالنسبة للتركيب المحصولي, فإن هناك أنماطا مختلفة لتنظيمه: الأول هو الدورة الزراعية الشاملة والمحكمة التي تستند الدولة فيه إلي سلطتها السيادية وتحدد التركيب المحصولي لمجمل الاراضي الزراعية وتفرضه علي المزارعين في القطاع الخاص فضلا عن الاراضي المملوكة للدولة. والثاني هو الدورة الزراعية المرنة, حيث تتدخل الدولة لتحديد المساحات المزروعة بالمحاصيل الزراعية الاستراتيجية مثل القمح والأرز والذرة والقطن, بينما تترك الحرية للمزارعين في اختيار المحاصيل التي يزرعونها في باقي المساحات الزراعية, علي أن يتم تغيير الأراضي التي يتم تطبيق دورة المحاصيل الاستراتيجية فيها كل عام لضمان تطبيق هذه الدورة الزراعية بصورة عادلة علي كل المزارعين. والثالث هو استخدام سياسة الدعم والتحويلات التي تقوم من خلالها الدولة بتحسين القدرة التنافسية للمحاصيل الاستراتيجية بالمقارنة بالمحاصيل البديلة التي تتنافس معها, بما يؤدي إلي توجيه المزارعين والتأثير بقوة في التركيب المحصولي ليقترب أو يتطابق مع ما تريده الدولة, علي غرار السياسة الزراعية للدول المتقدمة مثل الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية. أما أن يتم ترك القطاع الزراعي يعمل بصورة عشوائية بلا أي استراتيجية أو توجيه أو دعم نتيجة الفهم الخاطئ لقضية التحرير الاقتصادي, فهذا أمر عبثي أدي في النهاية لانهيار إنتاج القطن في مصر والإضرار الجسيم بصناعة الغزل والإضرار بدرجة أقل بصناعات النسيج والملابس الجاهزة, والإضرار بدور مصر كمصدر تقليدي للقطن الطويل التيلة الممتاز ومنتجاته, وأدي أيضا لاضطراب إنتاج وأسعار القمح بصورة لا تتيح أي فرصة لبناء برنامج لرفع الاكتفاء الذاتي منه وتقليل الإنفاق علي واردات مصر منه والتي تضعها للأسف في مقدمة دول العالم في استيراده. كما أدت هذه العشوائية إلي أن مصر التي تحتاج للحبوب كمحاصيل استرتيجية, أكثر من أي محاصيل أخري, أنتجت في عام2010/9002 نحو22.3 مليون طن منها, وتستورد كميات ضخمة من القمح والذرة, بينما أنتجت نحو25.1 مليون طن من الخضر, ونحو9.8 مليون طن من الفاكهة في العام نفسه, وصدرت جانب منه وتعرض جزء مهم للتلف نتيجة زيادته عن حجم الاستهلاك المحلي وعدم القدرة علي تصديره أو تصنيعه. وهذا الخلل بين التركيب المحصولي والاحتياجات الاجتماعية والصناعية بحاجة للمعالجة لتطوير القطاع الزراعي والتوسع في الصناعات الزراعية الصغيرة والكبيرة لإعادة هذا القطاع للمسار الصحيح كأحد أعمدة الاقتصاد والتنمية الشاملة. المزيد من مقالات أحمد السيد النجار