ربما يكون الحديث في أمور الشريعة أمرا شائكا للبعض.. ومحظورا للبعض الآخر.. غير أن الدين لم يكن أبدا محل خلاف بين المصريين مسلمين وأقباطا, ولم تكن نصوص الدساتير المتعاقبة مصدرا للنزاع بينهم, فالكل سواء أمام القانون.. هكذا سارت الأمور, إلي أن حدثت أزمة تعديل المادة الثانية من الدستور في عام1980, ثم مرت بسلام, لكنها عادت خلال الاستفتاء علي التعديلات الدستورية الأخيرة, فقسمت المصريين الذين وحدتهم ثورة25 يناير إلي فريقين: المسلمون قالوا نعم خشية المساس بالمادة الثانية, والأقباط قالوا لا بغية تعديلها! وراء تعديل المادة الثانية من الدستور, خفايا وأسرار! عاشها المستشار محمد حامد الجمل رئيس مجلس الدولة الأسبق, والمستشار القانوني لمجلس الشعب, فهو الذي صاغ التعديل.. وهو شاهد عيان علي الأزمة.. من هنا بدأنا الحوار, فإلي التفاصيل: ما هي قصة التعديل, والأزمة التي تسبب فيها؟ الجمل: وفقا للائحة الداخلية لمجلس الشعب, كان من المفترض أن يتم عرض تعديلات المادة الثانية علي هذه اللجنة, وكانت هذه اللجنة تضم ألبرت برسوم سلامة, وكان وزيرا لشئون مجلس الشعب, ومحام معروف في مجلس نقابة المحامين اسمه حنا ناروز, وثالث لا أتذكر اسمه الآن, وكنت أحضر اجتماعات اللجنة لإعداد التقرير الذي يتم إرساله إلي مجلس الشعب, لكي تتم الموافقة علي التعديلات قبل طرحها للاستفتاء, فاعترض الأقباط الثلاثة علي إضافة حرفي( أ, ل) إلي كلمة مصدر, وبنوا اعتراضهم علي مؤلفات, وكتب لبعض الفقهاء ومن بنيهم ابن تيمية, إلي جانب تفاسير قديمة, تتحدث عن أن الأقباط مواطنون من الدرجة الثانية حسب فهم هؤلاء الفقهاء, وأن يحرمون من المناصب العامة, وأن يفرض عليهم زيا معينا لتمييزهم عن المسلمين, كما ذكر البعض من هؤلاء الفقهاء أن الأقباط لابد أن يدفعوا الجزية, وأنه لا تقبل لهم شهادة علي المسلمين في المحاكم, لأنه لا ولاية لمسيحي علي مسلم, هذه هي القواعد التي ذكرها بعض الفقهاء في العصور الماضية.. المهم ثار الأقباط الثلاثة, فقال لهم الدكتور صوفي أبو طالب- رحمه الله- وكان وقتها رئيس مجلس الشعب, ورئيس اللجنة العامة للمجلس: أنتم تقولون كلاما لا أساس له في الشريعة, ولا في الدين الإسلامي, وأن المبدأ هو لكم ما لنا, وعليكم ما عليناوما تقولونه لا يطبق عند الأخذ بمبادئ الشريعة الإسلامية, وانسحب الأقباط الثلاثة المعارضين لصيغة التعديل, وحدثت أزمة, ووصل الأمر إلي الرئيس السادات, الذي كلف بدوره اللواء محمد نبوي إسماعيل وزير الداخلية آن ذاك, لبحث الموضوع, وكلفه بجمع معلومات عن سبب الخلاف, وسبل حله, فجاءني, وسألني هل إضافة( أ, ل) إلي كلمة مصدر في المادة الثانية من الدستور يترتب عليها المساس بالمركز القانوني والدستوري للأقباط, أم لا؟ قلت هذه الإضافة لا تغير من الأمر شيئا, ذلك أن المبادئ العامة موجودة في الفقه الإسلامي, وهناك مسألة مهمة ترتكز علي أن الشريعة الإسلامية لا تطبق بقوة نصوص الدستور, ولكن تطبق بإرادة المشرع المصري, وعندما يتم إعداد قانون لابد من الرجوع لأحكام الشريعة الإسلامية في كل المذاهب, وينتقي منها الأحكام واجبة الانطباق, وتصدر في صورة قانون مثل قانون المواريث, والوصية, والوقف, وغيرها, وبالتالي فإن مخاوف الأقباط غير مبررة, لأن الشريعة لا تطبق من القضاة ولا غيرهم, وإنما تطبق بقوانين, وقبل صدور هذه القوانين لا توجد مخاطر, ولا مخاوف حقيقية من الاستناد إلي كلام فقهي لا سند له في القرآن, ولا السنة, كالذي يشكون منه, ويعتقدون خطأ أنه يهددهم, إذن لا توجد جزية, ولا نصوص تحظر علي الأقباط تولي أية مناصب في الدولة, ولا أن شهادة الأقباط غير مقبولة أمام المحاكم وسألني النبوي إسماعيل: نعمل إيه؟!.. قلت أمامنا حل من اثنين: إما أن نضيف للمادة2 ما يفيد أنها لا تمس المواد الواردة في نصوص الدستور ومنها مبدأ المساواة بين المصريين أمام القانون, وعدم التمييز بينهم لا بسبب العقيدة, ولا الجنس, ولا اللون, وغما أن يكون هذا هو المقرر, ونكتب تقرير في هذه المادة يوضح هذا الكلام بصفة قاطعة وواضحة, ونقول أن هذه المادة لا تفسر وحدها منفصلة عن باقي مواد الدستور, وأولها المادة الخاصة بالمساواة,, وسيادة القانون, وإلزام الدولة بتطبيقه, ثم سألني: أيهما تفضل؟.. قلت: الحل الثاني, لأنه من المفروض أن تقول كلاما مفهوم حتما من النص دون حاجة إلي كتابته, وإنما ما تقوله هو الشرح الرسمي لمعني المادة, ومضمونها, فنقل النبوي إسماعيل كلامي للدكتور صوفي أبو طالب, ومن ثم عرض الأمر علي الرئيس السادات, ووافق الرئيس علي المبدأ الذي ذكرته, وطلب النبوي, وصوفي مني أن اعد التقرير بالتعديل المذكور, والذي تم في عام1980 إذن ما هو التعديل الذي انتهيت إليه؟ الجمل: قلنا والمبادئ العامة للشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع, ولم نقل أنها المصدر الوحيد, وكان التيار الإسلامي يرغب في أن تكون الصياغةوالمبادئ العامة للشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع وهذا الكلام غير ممكن في دولة قانونية, والرئيس السادات رفض ذلك, المهم كتبت التقرير بصفتي مستشارا لمجلس الشعب, وعرضت مسودته, فيما يخص هذه المادة علي الأقباط الثلاثة الذي كانوا معترضين علي التعديل, وقمت بشرحها, وكذلك قام د. صوفي أبو طالب, وعادوا إلي اللجنة العامة, واقتنعوا, وقبلوا, وأصبح التعديل الإسلام هو دين الدولة, واللغة العربية لغتها الرسمية, ومبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع, وأقول أن مبادئ الشريعة لا تدخل مباشرة في التطبيق القضائي, ولكنها تدخل في القانون الوضعي, و المادة الثانية لا يمكن تفسيرها وحدها, بمعزل عن المواد الأخري في الدستور, ومنها ما يتعلق بالمساواة, وعدم التمييز بين المواطنين, كذلك المواد الأخري المتعلقة بسيادة القانون, واستقلال القضاء, وأن المحاكم هي التي تتولي الفصل في المنازعات ضغوط الإسلاميين هل قرر الرئيس السادات تعديل المادة الثانية استجابة لضغوط التيار الإسلامي في ذلك الوقت؟ - الجمل: نعم, لقد أراد الرئيس السادات الاستجابة لطلباتهم لتبرير تعديل المادة الخاصة بمدة الرئاسة, بحيث لا تصبح مدة ولايته6 سنوات فقط, وإنما أضيف إلي النص عبارة مدد أخري, لكي يبقي في السلطة كما يشاء, وبالتالي وافق علي تعديل المادة الثانية في مقابل موافقة التيار الإسلامي علي تعديل مدة حكمه بحيث لا تقتصر علي السنوات الست التي نص عليها الدستور, وهذا هو الغرض حسب ظني, وأعتقد أن تقديري صحيح, والحقيقة, أن مخاوف الإخوة الأقباط من المادة الثانية وهم كبير, وهي غير مبررة, ولا أساس لها من ناحية التفسير الدستوري الدقيق لأحكام هذه المادة. الشريعة المسيحية أقاطعه: لكنهم يقترحون إضافة نص يقضي بتطبيق نصوص الشريعة المسيحية عليهم ؟ - الجمل: إذا كان المقصود بهذا المعني هو أن يتم التعامل مع الأقباط حسب شريعتهم, فهنا أقول أن الشريعة القبطية ليس فيها قواعد قانونية حاكمة إلا في موضوعات محدودة جدا, كالطلاق, والزواج, أما الميراث, والنسب, والحضانة فلا يوجد ما يعد من الشرائع الخاصة بالأقباط دون المسلمين في هذا الشأن, فالدين الإسلامي لا يجحف الأقباط, ولا يفرض عليهم أحكاما تتعارض مع شريعتهم فيما يتعلق بالزواج والطلاق بالذات, أما المخاوف من الحديث عن فرض الجزية عليهم فهذا أمر لا سند له إلا في الكتب القديمة لان الأقباط والمسلمين يجري تجنيدهم في القوات المسلحة, فلا يوجد في القانون ما يسمي بالجزية, فقد كان يتم فرض الجزية علي الأقباط, لأنه لم يكن يتم تجنيدهم في الجيش الإسلامي في الدولة العربية الإسلامية, والآن يتم تجنيدهم إجباريا, كما لا يتم التمييز في توليهم المناصب العامة, وإن حدثت حالات تمييز فهي تتم بشكل فردي. الأقباط والمناصب العامة كنت رئيسا لمجلس الدولة, فهل حدث تمييز بين الأقباط والمسلمين في تولي المناصب داخل المجلس؟ الجمل: لا.. لم يحدث, فقد تولي اثنان من الأقباط رئاسة المجلس, أحدهما المستشار نبيل ميرهم, والثاني لا أتذكر اسمه, فقد تركت رئاسة المجلس منذ عام1993 وللأمانة أدي الزميلان عملهما بكفاءة, واقتدار حتي انتهت مدة خدمتهما. لهذه الأسباب اضطهدوني خرجت من المجلس في سن الستين, مع أنه صدر قرار بالمد لأعضاء الهيئات القضائية لأربع سنوات فيما بعد.. فلماذا لم تستفد من هذا القرار؟ كنت مضطهدا, فقبل خروجي علي المعاش صدر قرار بقانون من الرئيس السابق بمد خدمة القضاة لمدة4 سنوات, فنشروا القرار بعد خروجي علي المعاش بيوم واحد, وقلت للدكتور فتحي سرور: كيف يكون المجلس منعقدا, ويصدر الرئيس القرار بقوة القانون, وهذا مخالف للدستور, قال لي: مخالف ولا مش مخالف, الرئيس لما كان بيسألك كنت تعطيه محاضرة!, وهذه كانت جريمتي, أما سبب الأزمة فكان قانون قطاع الأعمال العام, فقد جمعت قسم التشريع, ورأسته, وانتهي الرأي بالرفض بالإجماع, وكان سبب الرفض هو وجود مسميات جديدة للقطاع العام بالمخالفة للدستور, كما أنه لم تكن هناك قواعد تنص علي الشركات التي تخضع للخصخصة, ولا إجابات عن كيفية التخصيص, ولا الثمن الذي سيتم البيع به, ولا مصير العاملين, وانقلبت الدنيا بعد رفضنا للقانون, وهاج عاطف صدقي عندما علم بأنني أرسلت الرفض لرئيس الجمهورية حتي لا يقوم أحد بتضليله, وقالوا عني ده راجل ناصري, وماركسي, وقالوا أيضا أنني أرفض الخصخصة, لكني في الحقيقة كنت ضد الخصخصة المنفلتة, حتي لا يتم نهب, وسرقة القطاع العام, وقد اتصل بي د. مصطفي الفقي, وقال لي الرئيس بيقولك خلاص الرسالة وصلت, وبلاش تتكلم في الصحافة, ثم فوجئت بصدور القانون, ولم يستجيبوا لملاحظاتنا, وفيما بعد ظهرت خطايا الخصخصة. وماذا كان موقفك من التعديلات الدستورية الأخيرة؟ رفضتها, لأن الدستور سقط فعلا بالشرعية الثورية, وكان المفروض إصدار إعلان دستوري مؤقت منذ البداية, يتضمن الأحكام الأساسية لسير العمل بالدولة, علي أن يتضمن حقوق الإنسان, والحريات العامة, وسيادة القانون, واستقلال القضاء, فالتعديل ورد علي ما هو ليس موجودا بالفعل, وبالتالي لا معني لها, لأنها وضعت في دستور عاطل أو ساقط! في تقديرك.. كم من الوقت يستغرق إصدار دستور جديد؟ مع خبرة الجمعية العمومية للفتوي والتشريع بالمجلس, لا يستغرق الدستور أكثر من شهر, وأنا بخبرتي, وباعتباري عدلت الدستور من قبل, ولو اختاروني رئيسا للجنة, لا تستغرق صياغته مني أكثر من أسبوعين, أما المناقشة, والاستفتاء فهي تحتاج إلي وقت! الإخوان والسلطة هل تؤيد وصول الإخوان المسلمين إلي السلطة؟ مبدئيا أنا ضد اضطهاد الإخوان, أو أي تيار سياسي, فإذا كان أي تيار يتبع النشاط السلمي, ويلتزم بالمبادئ الدستورية العامة, ويقر مبدأ المساواة بين المصريين, وعدم التفرقة بين المسلمين والأقباط, ومراعاة حقوق المرأة, وتوليها المناصب العامة دون تمييز, وألا يكون هناك تمييز بسبب العقيدة, والجنس, واللون, وإذا التزموا بقواعد الدولة المدنية فأنا معهم, وغير كده أنا ارفضهم, أما سبب المخاوف من التيار الإسلامي هو ظهور عبود الزمر, وكذلك ظهور قيادات التيار الإسلامي في الفضائيات, والصحف, كما أنهم هم الذين حشدوا الأغلبية للتصويت في الاستفتاء! التصالح في قضايا الفساد هل توافق علي تطبيق مبدأ التصالح مع من تثبت بحقهم اتهامات بالفساد, والتربح من المال العام ؟ لا أوافق علي التصالح معهم.. فمن ارتكب جرائم في حق الشعب المصري لابد أن يعاقب, ويحاسب, وإلا نكون قد فتحنا الباب أمام الفاسدين, ونقنن الفساد, يعني اللي يأخذ أراضي بملاليم, ثم نكتشفه, نكتفي برد ما أخذه, ونقول له مع السلامة.. هذا الكلام غير دستوري, وغير أخلاقي, وغير عقلاني!