ليس صحيحا أن ثورة25 يناير قامت فقط لإسقاط النظام, فإلي جانب إطاحتها برأس النظام بشكل فاجأ الجميع, فقد أسقطت أيضا الكثير من النظريات السياسية التي كانت سائدة في العالم حول مصر والوطن العربي, التي كانت تستمد قوتها من الفكر الرجعي المتخلف للمستشرق الشهير برنارد لويس الأستاذ بجامعة برنستون الأمريكية والذي كتب ما يزيد علي ال40 كتابا عن الإسلام وعن العالم العربي, أكد فيها أن الإسلام بطبيعته معاد للديمقراطية, وأن الدول العربية لايمكن أن تحكم إلا بالديكتاتورية, بل ووصل به الأمر أن قال إن العالم العربي بهذا المعني سيجد نفسه أقرب الي تطبيق الأنظمة الشيوعية الشمولية البعيدة عن الديمقراطية, وتلك هي النظريات التي اعتمد عليها الغرب طوال سنوات الحرب الباردة. وبرنارد لويس هو أستاذ تاريخ من جامعة لندن ينحدر من عائلة. يهودية تلقفته الدوائر الصهيونية في الولاياتالمتحدة فأصبح أستاذا بجامعة برنستون الشهيرة, وانتشر نفوذه في الفكر السياسي الغربي بشكل كبير حتي أصبحت نظرياته عن الإسلام والعالم العربي تمثل الأساس الفكري للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط طوال ما لا يقل عن نصف قرن من الزمان, وذلك منذ أعلن في الخمسينيات الماضية حين كانت ثورة مصر مازالت في سنواتها الأولي ولم تكن العلاقة بينها وبين الولاياتالمتحدة قد وصلت الي مرحلة المواجهة, أن هناك توافقا كبيرا بين الإسلام والشيوعية وأن ذلك يتمثل في ثلاث نقاط واضحة, أولاها أن الحكم الإسلامي كان دائما حكما سلطويا, وأن المجتمعات الإسلامية التي تعودت علي هذه النوعية من الحكم لن تجد اعتراضا علي سلطوية الحكم الشيوعي واستبعاده للحقوق السياسية والشخصية للفرد. وثانية نقاط التشابه بين الإسلام والشيوعية, حسب نظرية لويس, هي أن الشعوب الإسلامية تعودت علي مركزية الحكم وسيطرته علي النشاط الاقتصادي بما يجعلها تقبل بسهولة نظرية التخطيط المركزي التي يعتمد عليها الحكم الشيوعي. أما التشابه الثالث, فهو أن الإسلام يؤمن بدور علماء الدين الذين يماثلون منظري الحكم الشيوعي في أنهم المرجع في تحديد اتجاه الحكم, وهم في الحالتين يقسمون العالم الي معسكرين لا تلاقي بينهما بل هما في حالة مواجهة دائمة. وخطورة تلك النظرية تأتي من أنها طرحت في الوقت الذي كانت الولاياتالمتحدة تداعبها الفكرة المعاكسة, وهي أن العالم العربي بسبب الإسلام لن يلجأ أبدا الي الشيوعية, وأنه بطبيعته أقرب الي الغرب لأسباب ثقافية ودينية, لكن مثل هذا الرأي لم يكن ليروق لدوائر الضغط الصهيوني التي وجدت في نظريات برنارد لويس ضالتها فنشرتها علي نطاق واسع حتي أصبحت تمثل القاعدة الفلسفية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط طوال النصف الثاني من القرن العشرين, مما تسبب في عداء غير مسبوق بين العالم العربي والمعسكر الغربي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية, وهو ما كان يخدم الأهداف الإسرائيلية بشكل مباشر. ولست أعرف نظرية أخري بهذا القدر من السذاجة والسطحية سادت الفكر السياسي الغربي طوال نصف قرن من الزمان, كما سادت نظريات لويس, فالقول إن الإسلام بطبيعته بعيد عن الديمقراطية ليس فقط قولا مغرضا وانما هو يدل علي جهل بتاريخ الحكم في الإسلام الذي اعتمد فكرة الشوري ونظام البيعة كأساس لشرعية الحكم ولم يعتمد علي توريث الملك الذي كان سائدا في الغرب, ولا علي نظرية الحق الإلهي للملوك الذي عرفته جميع الممالك الغربية في القرون الوسطي, وما هي الشوري إلا التداول في أمور البلاد, وما هي البيعة إلا اختيار الشعب كما في الانتخابات لحاكمه. علي أن نظريات برنارد لويس تعرضت لكثير من النقد خاصة بعد انتهاء عصر الحرب الباردة وسقوط المعسكر الاشتراكي الذي كان لويس يربط بينه وبين العالم العربي والإسلامي, لكن اللافت للنظر أن نظريات الرجل العجوز والبالغ من العمر الآن94 عاما لم تتغير, وقد كتب بعد أحداث سبتمبر2001 في نيويورك عدة مقالات دعا فيها الولاياتالمتحدة لعدم العمل علي نشر الديمقراطية في العالم العربي باعتبار أن هذا الأخير غير مؤهل لها, وأن أي محاولة لتطبيق الديمقراطية ستأتي حتما الي الحكم بالإسلاميين المتطرفين, وبذلك يسود النموذج الإيراني جميع الدول العربية, قائلا إن قبول الانتخابات الحرة سيكون إجراء تكتيكيا من جانب السلفيين الإسلاميين سرعان ما سيتخلون عنه بعد وصولهم الي سدة الحكم ليؤسسوا ديكتاتوريات ثابتة وشرسة علي حد تعبيره. وقد أكد لويس في أكثر من مناسبة, أن فكرة المواطنة غريبة علي الدين الإسلامي الذي يربط بين الدين والدولة, فإذا لم يكن المواطن في جانب الإسلام فلا مكان له في الدولة, ويقول إن هذا الخلط بين الدين والدولة يجعل من الحاكم حاكما بأمر الله, ومن ثم فهو يستمد شرعيته من السماء وليس من اختيار الشعب له, وأن قبول الإسلام للأقليات هو القبول بمن هم أقل وليس بمن هم مساوون في الحقوق والواجبات. وقد نشر لويس كتابه الشهير عن أفول الدولة الإسلامية بعنوانWhatWentWrong أي ما الذي فسد, شرح فيه أن الحضارة الإسلامية التي وصلت الي أعلي المراتب قد مضي عهدها وفسد وضعها لأسباب تتعلق بعقيدتها ذاتها, وقد نشر هذا الكتاب بعد أحداث سبتمبر2001 برغم أنه كتبه قبلها, وكان له دوي كبير يتفق مع النظرة التي كانت سائدة في الولاياتالمتحدة آنذاك إزاء ذلك الدين الأجنبي الذي جاء أبناؤه يفجرون الأبراج ويقتلون المواطنين الآمنين الأبرياء. وربما كان المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد هو أكثر من تصدي لفكر برنارد لويس, حيث فند أفكاره وفي أكثر من مناسبة, ووصل إلي حد وصفه بالجهل الشديد, وبأنه لا يعرف الشرق الأوسط الذي لم يزره منذ أربعين عاما. لكن أحدا لم يسقط نظريات لويس الصهيونية بالضربة القاضية مثلما فعلت ثورة25 يناير في مصر والتي أثبتت أن الديمقراطية مطلب أساسي للشعب المصري, كما أن انتشار الثورة في الدول العربية الأخري لهو دليل علي عدم صحة نظرية لويس القائلة بأن الدين الإسلامي لا مكان فيه للديمقراطية, وهو ما جعل الفكر السياسي الغربي ينصرف لأول مرة منذ أواسط القرن الماضي عن نظريات برنارد لويس وأمثاله والتي سيطرت علي السياسة الغربية في الشرق الأوسط بأطول مما ينبغي. المزيد من مقالات محمد سلماوي