لا أظن أن هناك من يختلف معي في أننا نمر في هذه الأيام بمرحلة لم نتفق بعد علي تسمية لها. لكننا متفقون علي أنها مرحلة سلبية, وأننا غير راضين فيها عن أنفسنا. نحن نري عدم الرضا في الوجوه المحيطة بنا. وجوه منطوية علي نفسها, غير متحمسة لشيء, وغير حافلة بمظهرها, وغير مرحبة بغيرها. وجوه الرجال والنساء وحتي الأطفال. ونري عدم الرضا في الأحاديث التي نتبادلها حين يتاح لنا أن نتبادل الحديث, ولو لم يعرف كل منا الآخر, لأننا لا نوجه الحديث غالبا إليه, وإنما نتخذ وجوده مناسبة نرفع فيها أصواتنا بما نريد أن نقول. تختلف نقاط البداية في أحاديثنا وتختلف موضوعاتها, لكنها تؤدي كلها إلي الشكوي التي نتعجل الوصول إليها. نحن نشكو من المسئولين وغير المسئولين. من الموظفين والتجار والحرفيين. مما نلقاه في المدارس والمكاتب والمستشفيات. من النفايات والقاذورات والسموم التي تلوث شوارعنا وأسماعنا وأبصارنا. نشكو من كل ما نراه ونواجهه, ومن كل من نراهم ونتعامل معهم. وهم يشكون منا أيضا مر الشكوي. ويبدو أننا جميعا علي حق, نحن وهم, فالوقائع والظواهر والجهات والمؤسسات التي نشكو منها تضغط علينا من كل جانب, وتسد علينا كل سبيل, وتحاصرنا, وتدفعنا للشكوي الدائمة, لأن ما نشكو منه متواصل مستمر, يزداد إلحاحا علينا ومطاردة لنا. لكننا من ناحية أخري سبب من أسباب الشكوي وطرف أساسي من الأطراف التي تصنع ما نشكو منه. نحن نعيب التصرف المعيب حين نكون ضحية له, لكننا لا نتورع عن إتيانه وإعادة تمثيله لأننا نستسهل التقليد ونصنع مايصنعه الآخرون. أو لأننا نجد أنفسنا مضطرين. ونحن في الحالين واقعون في الخطأ متورطون فيه. لأننا في الحالة الأولي لا نرفع أصواتنا في وجه الخارج المتجاوز للحد المعتدي علي الحق. ولأننا في الحالة الأخيرة نكرر الفعل الذي نشكو منه ونأتي مثله. نحن في الحالة الأولي سلبيون. نخاف من الفاعل صاحب السلطة أو صاحب السطوة, أو غير مبالين, فقدنا الشعور بالمسئولية والغيرة علي الحق. ونحن في الحالة الأخيرة شركاء فاعلون, وتلك هي الشيزوفرينيا أو الفصام الذي يحدثنا عنه علماء النفس فيقولون انه مرض تصاب فيه الشخصية بالتصدع والتمزق, وتتحول الي قوي وملكات متضاربة متصارعة, تعمل كل منها بمعزل عن الأخري, فلا تتكامل, بل تتناقض ويهدم بعضها بعضا. فكر بعيد عن الواقع, وإذن فهو وهم. وعمل بغير تفكير, وإذن فهو عبث. وربما عبر الشاعر الفرنسي بودلير عن الفصام حين نظم قصيدته التي تحدث فيها عن الذين يعذبون أنفسهم ويجلدون ذواتهم فقال: أنا الجرح والسكين/ أنا اللطمة والخد/ أنا الجسد المعذب وآلة التعذيب/ وأنا الجلاد والضحية! ونحن ننظر في حياتنا فنجد ألف شاهد علي هذا الفصام أو هذه الشيزوفرينيا. نحن من؟ نحن مصريون كما نبدو في مباريات الكرة؟ أم غير مصريين كما نري في هذا الخليط غير المتجانس من الأسماء والأزياء واللغات والألوان والأساليب التي لا تشير إلي عنصر جامع, ولا تدل علي رابطة مشتركة, ولا تخضع لأي قانون؟ كل منا يسير في اتجاه ويصنع ما بدا له, لا داخل مجاله الفردي فحسب, بل في مجال غيره أيضا, أو في المجال العام المشترك الذي لا يجوز أن يستأثر به أحد أو يخرج علي القوانين التي تنظم استخدامه بحيث يتسع للجميع ويلبي حاجاتهم المشتركة وحدها, ولا يسمح لأي منهم بأن يفرض علي الآخرين ما يريده هو أو ما يراه. ونحن ننظر في حياتنا فنري ألف شاهد علي انتهاكنا لهذا القانون. الشارع ملكية عامة, والأرصفة كذلك. لكن شوارعنا وأرصفتنا تحولت إلي ملكيات خاصة حصل عليها أصحابها بوضع اليد! وأنا أجد نفسي مضطرا للسير علي قدمي فلا أجد طريقي, ولا أستطيع أن أتقدم دون أن أتأرجح صعودا وهبوطا بين الرصيف العالي وأرض الشارع الواطئة. الأرصفة, حتي في أرقي الأحياء تحولت إلي مواقف للسيارات المملوكة في الغالب لأصحاب النفوذ الذين كان ينتظر منهم أن يضربوا المثل في احترام القانون. لكنهم علي العكس يضربون الأمثال في انتهاك القانون, وفي سرقة المال العام, لأن الذي يغتصب أرض الشارع لا يتورع عن اغتصاب أي شيء آخر. والذي يقال عن شوارع المدينة وأرصفتها يقال عن فضائها الذي نملكه ملكية عامة ونحب أن يظل نقيا هادئا, لأننا لانستطيع بدون هذا الهدوء أن نفكر أو نعمل أو نستريح, لكن أحدا لا يسمح الآن لأحد بأن يفكر في هدوء, أو يعمل في هدوء, أو ينام في هدوء. مكبرات الصوت تزلزل سكينتنا بأصوات لا رحمة فيها ولا تقوي ولا جمال. ومادمنا قد سمحنا لمكبرات الصوت فلماذا لا نسمح لأبواق السيارات؟ ولماذا لا نسمح لباعة الخبز, والخضر, والفاكهة, وأنابيب البوتاجاز الذين يقتحمون علينا غرف نومنا منذ السادسة صباحا بنداءاتهم الزاعقة المتواصلة التي لم نعد نستنكرها أو نحتج عليها, لأنها أصبحت تعبيرا عن ثقافة سائدة تبرر لمن شاء أن يصنع ما شاء, مادام يملك المال أو السلطان. فإذا لم يكن صاحب مال أو سلطة فباستطاعته أن يتاجر بالدين ويسخره لمصالحه ويجعله بديلا عن الوطن, ولا يري فيه إلا ما يفرق بين أبنائه ويحولهم إلي طوائف متناحرة ومصالح متضاربة لا تجمع بينها مصلحة مشتركة. هذا التصدع الذي أصاب جماعتنا الوطنية أصاب أفرادنا أيضا, فالواحد منا يحمل أكثر من وجه, ويتكلم بأكثر من لسان, ويقول في السر ما ينكر في العلن. والنتيجة هي هذا الهلع الذي يذكرنا بيوم القيامة, يوم يفر المرء من أخيه, وأمه وأبيه, وصاحبته وبنيه, وهذه الشكوي التي نخرج منها إليها, لأنها أصبحت حلا بالنسبة لنا جميعا. كل منا في قرارة نفسه مظلوم وظالم. معتد ومعتدي عليه. وإذن كيف يخلص نفسه من نفسه؟ وكيف يقتص من ظالمه؟ الشكوي هي الحل, لأنها كلام ولا فعل. كلام نتباكي فيه علي حقوقنا المهدرة, ونعجز عن الفعل الذي يكلفنا أن نتوقف عن البكاء ونحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب غيرنا. كيف نعالج أنفسنا من هذا المرض؟ وكيف نكف عن الشكوي, ونحاسب أنفسنا, ونحاسب الآخرين؟!.