بعد أن قام ثوار 25 يناير بمفاجأة الجميع بثورتهم التي شملت العديد من شوارع وميادين المدن المصرية, اجتذب ميدان التحرير الأضواء بعد أن اجتذب الكتلة الأكبر من شباب الغضب في القاهرة, وأصبح بمثابة المركز الذي تمتد فروعه في بقية ميادين المدن المصرية, وأخفقت محاولات إخلاء الميدان بالعنف, وسقط العديد من ذلك الشباب الثائر قتلا بالرصاص أو بالعصي. وتدافعت قنوات الإعلام علي تنوع توجهاتها لنقل ما يجري في ذلك الميدان المركزي, ولم يعد مهرب من أن يفرض ميدان التحرير نفسه علي جميع القوي السياسية المصرية, حيث لم يعد مقر ا لشباب الثوار فحسب بل أصبح قبلة القوي المصرية السياسية بل والسلطة المصرية بوجهها السياسي متمثلا في الوزارة ومؤسسة رياسة الجمهورية وكذلك بوجهها العسكري متمثلا في الجيش المصري, فضلا عن أنه أصبح ملجأ لكل ألوان الطيف من المظلومين المصريين وما أكثرهم. شاهدنا ممثلي القوات المسلحة المصرية يخطبون في جماهير المعتصمين, وشاهدنا رموز السلطة المصرية السياسية تدعو مجموعات من شباب المعتصمين للحوار فيتركون ميدان التحرير ليعودوا إليه, ورأينا بعيوننا بعضا من هؤلاء الشباب يتحدثون في أجهزة الإعلام معبرين عن مطالبهم بطلاقة سياسية تستلفت النظر, وشاهدنا وفود الأحزاب ولجان الحكماء والعديد من الشخصيات العامة يحرصون قبل توجههم للحوار أو التفاوض مع السلطة أو حتي قبل إعلانهم لرفض ذلك الحوار أن يؤكدوا بالصوت والصورة أنهم قد تواجدوا بشكل ما في هذا الميدان الذي أصبح بمثابة بوابة العبور ذهابا وإيابا لمن يريد ممارسة السياسة العملية في مصر. وليس أدل علي ذلك من توجه الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء الجديد إلي ميدان التحرير معلنا للثوار أنه يستمد شرعيته منهم. ولم يكن شيئا من ذلك ليحدث لولا أن استمرت الحشود في الميدان لا تبرح ولا تتفكك, ولم يكن بد والأمر كذلك لمن لا يريد استمرار تلك الثورة من التحول إلي محاولات التشويه الفكري لما جري في الميدان, وأخذت حلقات مسلسل ذلك التشويه تتوالي: أولا: محاولة اختزال الثورة بادعاء إنها ثورة الشباب فحسب, وإنهم ليسوا سوي مجموعة من الشباب الصغار الأبرياء الطيبين. ويكفي المرء أن ينظر ولو من بعيد إلي صور الثوار المحتشدين في ميدان التحرير ليتبين أنهم ليسوا كذلك: لقد بدأ هؤلاء الشباب الثوار الدعوة للثورة ولكن من لبوا الدعوة كانوا يمثلون جميع أطياف المجتمع المصري من مختلف الفئات العمرية. ومن ثم فإن اختزال الثورة في طابعها الشبابي يجافي الحقيقة والحق معا: إن مطالب الثوار المعلنة علي الجميع لم تتضمن مطلبا واحدا يخص الشباب وحدهم, فضلا عن أنهم في مطالبتهم بتنحي الرئيس السابق لم ينزلقوا إلي تلك الحجة الساذجة بالربط بين المطلب والتقدم في السن بل ربطوه بحق بتفشي الفساد والظلم وانعدام العدالة الاجتماعية. ولعل طلائع ثوار52 يناير قد كانوا علي وعي بحقيقة أن مظلة الشباب كمرحلة عمرية تشملهم كما تشمل غيرهم وأنها سوف تنسحب عنهم وعن غيرهم بتقدمهم في العمر, فضلا عن أنه لا أحد يستطيع أن يجرد ضباط أمن الدولة والأمن المركزي وغيرهم من براعم رموز الفساد من شبابيتهم. ثانيا: اتهام الثوار بأنهم تسببوا في إرباك المرور وفي تعطيل مصالح الناس وتعطيل عجلة الانتاج, رغم ان هؤلاء الثوار قد اختاروا لتظاهراتهم الأسبوعية يوم الجمعة وهو يوم الإجازة الذي تتعطل فيه المصالح رسميا وذلك علي غير ما جرت عليه العادة في المظاهرات المصرية, ومن ثم ينبغي البحث الجدي عن النسبة الحقيقية للمصانع المعطلة, والأسباب الحقيقية لتعطيل الإنتاج. ثالثا: اتهام الثورة بأنها السبب في اختفاء الشرطة ومن ثم في انفلات الأمني. ورغم أن أحدا لا ينفي أن اختفاء الشرطة يشجع المجرمين علي ممارسة جرائمهم, ولكل هل كان من شعارات ثوار52 يناير وعلي رأسها هتافهم سلمية سلمية الدعوة إلي إلغاء الشرطة؟ أم أن ذلك الانسحاب مازال لغزا تبحث جهات التحقيق عن فك طلاسمه حتي الآن؟ وما زلنا في انتظار تحقيق جاد لكشف المسئولين عن محاولات الترويع الإعلامي التي مازال بعضها مستمرا, وكذلك كشف المسئولين عن محاولات البلطجة المنظمة التي شهدناها أخيرا. ولنا أن نتساءل في النهاية, تري هل كان الأمن علي خير ما يرام قبل ذلك؟ وهل نسينا ترويج أجهزة الإعلام طوال السنوات الماضية لما سمته ظاهرة التحرش الجنسي وأيضا ظاهرة البلطجة والخروج علي القانون. رابعا: الحديث عن ديكتاتورية ميدان التحرير وكيف أنه في ظل تلك الديكتاتورية يتم إقصاء وتخوين الرأي الآخر. لقد شاهدنا في ميدان مصطفي محمود متظاهرين يحملون صور الرئيس السابق ويعلنون احتجاجهم علي تشويه صورته ويدينون صراحة شباب التحرير, ولم نر ديكتاتورية ميدان التحرير تدفع بالبلطجية وراكبي الجمال لتفريقهم, ولم نشهد قوات أمن ميدان التحرير تختطف قادتهم وتلقي بهم إلي حيث يعجز رئيس وزراء مصر عن الاستدلال عن مكان احتجازهم أياما طوالا كما حدث بالنسبة للناشط وائل غنيم. تلك هي الدكتاتورية الاقصائية التي ذاق مرارتها أبناء جيلي والتي يعرفها العالم أجمع, أما ما يمارسه الجميع من رفض وإدانة للأفكار المخالفة فهو جوهر الديمقراطية. خامسا: الزعم بأن شيئا جوهريا لم يتحقق حتي الآن فقد سقط رأس النظام ولكن النظام مازال قائما, بل زعم البعض أن الرئيس السابق مازال يمارس سلطاته من مدينة شرم الشيخ. إنه الخلط بين قيام الثورة كحدث تاريخي وبين تحقيق أهدافها وتجاوز ما يعترضها من عثرات باعتبار ذلك عملية مستمرة. إننا مازلنا نتذكر ما وقع في مصر صباح32 يوليو2591, وكيف دخل ذلك اليوم التاريخ باعتباره يوم ثورة يوليو. ومن عاصروا ذلك اليوم يعرفون يقينا أن السلطة الملكية ظلت في مواقعها علي قمة البلاد, وأن الملك ظل في السلطة رسميا حتي وقع وثيقة التنازل باعتباره فاروق الأول ملك مصر والسودان في62 يوليو وأنه لم يتنازل عن سلطته آنذاك لمجلس قيادة الثورة بل لولي عهده الأمير أحمد فؤاد الثاني, وظلت مصر ملكية حتي81 يونيو3591 حين أعلنت الجمهورية. ومع ذلك ظل يوم32 يوليو وبحق هو يوم الثورة حين سمع المصريون من الإذاعة المصرية البيان الأول للقيادة والذي لم يشر من قريب أو بعيد للإطاحة بالنظام الملكي. وأن عملية تثبيت الثورة والقضاء علي أعدائها استمرت رغم ما شابها من تجاوزات دموية حتي السادسة من مساء11 فبراير لحظة تنحي الرئيس السابق, حين قامت ثورة52 يناير لتبدأ معها مسيرة تصديها لأعدائها. ورغم تلك الحقائق التاريخية فما زال البعض يترددون بل ويحجمون عن استخدام تعبير ثورة52 يناير1102 والتي تطور شعارها بسرعة خارقة ليصدر بيانها الأول من ميدان التحرير يحمل عددا من المطالب علي رأسها الشعب يريد إسقاط النظام مما أجبر الرئيس السابق علي التنحي. سادسا: بدأت محاولات شق صفوف الثوار بالتخويف من الديموقراطية, إذ بدأت الأصوات ترتفع محذرة من التسرع في إجراء الانتخابات بدعوي أن الشعب غير جاهز لممارستها. إن مثل ذلك القول قد يكون مقبولا في ظل قيام انقلاب عسكري ثوري يعتبر نفسه الطليعة التي عليها إعادة بناء الشعب وحمايته من الانحراف يمينا أو يسارا وإعداده لممارسة الديموقراطية في زمن قادم لا يعلمه سوي قادة الانقلاب الثوري, ولكن كيف يستقيم ذلك مع القول إن الشعب المصري أنجز ثورة سلمية غير مسبوقة في تاريخ الثورات. ولكن سرعان ما ينكشف المستور عن تصور مؤداه أن الانتخابات المتسرعة لن تسفر سوي عن فوز الإخوان المسلمين والحزب الوطني. ومثل هذا القول يثير عددا من التساؤلات: ألم يكن شباب الإخوان المسلمين ضمن ثوار52 يناير؟ هل يجوز أخلاقيا أو وطنيا أو سياسيا أن ندعو الثوار إلي الانقلاب علي بعضهم؟ تري هل تأجيل إجراء الانتخابات يعطي الفرصة للأحزاب الثورية الجديدة فحسب لمد جذورها وتحسين مواقفها أم أنه يتيح نفس الفرصة للجميع بما فيهما الحزب الوطني؟ تري هل المطلوب أن نبدأ ممارستنا للديموقراطية بممارسة الفرز والحرمان من ممارسة الحقوق السياسية ورفع شعار إقصاء أعداء الثورة ذلك الشعار العفن الذي ترعرعت في ظله جميع انحرافات أجهزة القمع الأمني؟ تري هل يمكن النظر إلي الانتخابات المقبلة من نفس المنطلقات الفكرية القديمة؟ هل نتصور أن نسبة المقبلين علي التصويت ستظل علي هزالها؟ ألا نضع في الاعتبار أن إقرار مبدأ التصويت بالرقم القومي سوف يدفع بكتلة ضخمة غير مسبوقة ممن لهم حق التصويت إلي المشاركة للمرة الأولي؟ هل من المتصور عودة ظاهرة التزوير المركزي للانتخابات من جديد؟ كيف؟ ولصالح من؟ فضلا عن انه من حقائق علم النفس السياسي أن فوز الجماعة الأكثر تنظيما في الانتخابات مرهون بضعف الإقبال علي تلك الانتخابات, وكلما ارتفعت نسبة المصوتين كانت صناديق الانتخابات تعبيرا صادقا لتوزيع القوي النسبية. المزيد من مقالات د. قدري حفني